العقول غير معقول.
فإن قلت : نمنع جزم العقل بالحسن والقبح بالمعنى المتنازع فيه.
نعم ، جزم العقل بالحسن والقبح ـ بمعنى الملاءمة والمنافرة ، أو صفة الكمال والنقص ـ مسلّم وهو غير نافع.
قلت أوّلا : إنّ العقل يحكم بديهة بأنّ قاتل الأنبياء بغير حقّ وبلا جهة مستحقّ للذمّ ؛ لظلمه ، والمحسن يستحقّ المدح ؛ لإحسانه ، والمنع مكابرة صريحة عند الإنصاف.
وثانيا : إنّ المسلّم فيما نحن فيه مستلزم للمتنازع فيه حيث يكون بالاختيار.
فإن قلت : قولنا : « العدل حسن ، والظلم قبيح » عدّ عند الحكماء من مقبولات العامّة للمصلحة العامّة والمفسدة وهي مادّة القياس الجدليّ ، فدعوى الضرورة ـ المعتبرة في اليقينيّات التي هي مادّة البرهان ـ غير مسموعة ؛ لعدم دلالة اتّفاق العقلاء عليها.
قلت : ضروريّة الحكمين المذكورين وعدم توقّفهما على النظر والفكر ضروريّة على وجه يكون إنكاره مكابرة ، ومدخليّة المصالح والمفاسد فيهما غير قادحة لصدورهما من العقل النظريّ بإعانة العقل العمليّ المزاول للأعمال ، والمباشر للأفعال بملاحظة المصالح والمفاسد من غير توقّف على النظر ، وهذا كتوقّف سائر البديهيّات إلى أمور غير النظر كالمشاهدة والملاحظة ، بل هما صادران من العقل مع قطع النظر عن المصلحة والمفسدة ؛ ولهذا يصدران من غير العارف بالمصالح والمفاسد ، ومن الغافل.
وعدّ الحكماء لهما من المقبولات مجرّد تمثيل للمصلحة العامّة والمفسدة العامّة ، فلهما جهة ضروريّة وجهة مقبوليّة ، فهما من اليقينيّات من جهة ضروريّتهما وعدم احتياجهما إلى النظر ، ومن المقبولات من جهة قبول عموم العقلاء لهما من جهة ملاحظة المصلحة والمفسدة العامّتين ، فعلى هذا يصحّ ذكرهما في البرهانيّات والجدليّات باعتبارين.