الثالث : أنّه لو لم يثبت الحسن والقبح إلاّ بالشرع ، لم يثبتا أصلا ؛ لأنّ العلم بحسن ما أمر به الشارع ، أو أخبر عن حسنه ، وبقبح ما نهى عنه ، أو أخبر عن قبحه يتوقّف على أنّ الكذب قبيح لا يصدر عنه ، وأنّ الأمر بالقبيح والنهي عن الحسن سفه وعبث لا يليق به تعالى ، وذلك إمّا بالعقل والمفروض أنّه معزول لا حكم له ، وإمّا بالشرع فيدور. وإلى هذا أشار المصنّف بقوله : ( ولانتفائهما مطلقا لو ثبتا شرعا ).
فإن قلت : إنّ الدور إنّما يلزم إذا جعل الأمر والنهي دليلي الحسن والقبح ، ولكنّا لم نجعلهما دليلين لهما ، بل نجعل الحسن عبارة عن كون الفعل متعلّق الأمر والمدح ، والقبح عبارة عن كون الفعل متعلّق النهي والذمّ.
قلت أوّلا : إنّه خلاف ما صرّح به شارح المقاصد (١) الذي هو من فحول الأشاعرة ، كما مرّ (٢) إليه الإشارة.
وثانيا : إنّ كون الفعل حسنا أو قبيحا ـ على تقدير كونهما شرعيّين ـ إنّما يعلم إذا كان الفعل متعلّق الأمر والنهي [ وكون الفعل متعلّق الأمر ] (٣).
الرابع : ما أشار إليه المصنّف رحمهالله أيضا بقوله : ( ولجاز التعاكس ) بمعنى أنّه لو كان الحسن والقبح بالشرع لا بالعقل ، لجاز أن يعكس الشارع ، فيحسّن ما قبّحه ، ويقبّح ما حسّنه ، كما في النسخ ، فيلزم جواز حسن الإساءة وقبح الإحسان بالمعنى المتنازع فيه ، وذلك باطل بالضرورة.
الخامس : ما ذكره في شرح المقاصد من أنّه لو لم يكن وجوب النظر عقليّا لزم إفحام الأنبياء (٤) ، وأنّه لو لم يقبح من الله تعالى شيء لجاز إظهار المعجزة على يد
__________________
(١) « شرح المقاصد » ٤ : ٢٨٢ ـ ٢٨٣.
(٢) مرّ في ص ٣٧٨.
(٣) كذا في النسخ.
(٤) هذا هو الدليل الرابع من أدلّة المعتزلة على كون الحسن والقبح عقليّين ، كما في « شرح المقاصد » ٤ : ٢٩٠ ـ ٢٩١ وردّه التفتازانيّ في نفس الكتاب ٢ : ٢٩٣.