قدرته ـ لَمْحَةً من هدايته ، وأمَدَّهُ بشْعْبَةٍ (١) من عنايته ، فقال لي ، صَدَّقَ الله قوله ، ولا أعدم الدنيا طَوْلَهُ (٢) ، كما أذاقَ العِدَا بَأْسَهُ وَصَوْلَهُ : إنَّك إنْ أَخَذْتَ فيه أَجَدْتَ وَأَحْسَنْتَ ، وليسُ له إلَّا أَنْتَ.
فقلت له : سَمْعا سَمْعاً ، ولم أسْتجِزْ لأمرهِ دَفْعاً ، بل تلقيتُّهُ باليَدَيْن ، وَوَضَعْتُهُ على الرَّأْسِ والعَيْن ـ وعاد ـ أدام الله تمكينَهُ ـ إلى البلدة عَوْدَ الحَلْي إلى العَاطِلِ ، والغَيْثِ إلى الرَّوْضِ المَاحِل.
فأقام لي في التأليف معالِمَ أقفُ عندها ، وأَقْفُو حَدَّها ، وأَهاب بي إلى ما اتَّخَذْته قِبْلَةً أُصَلِّي إليها ، وقاعِدةً أبني عليها ، من التمثيل والتنزيل ، والتَّفصيل والترتيب ، والتَّقْسيم والتقريب وكنت إذا ذاك مُقِيمَ الجسم ، شاخِصَ العَزْمِ ، فاستأذَنْتُهُ في الخروج إلى ضيعةٍ لي متناهية الاختلال ، بعيدةِ المَزَارِ فأجمع فيها بين الخلوة للتأليف (٣) ، وبين الاستعمار. فأَذِنَ لي أدام الله غِبْطَتَهُ ـ على كُرْهٍ مِنْهُ لِفُرْقَتي ، وأَمَرَ ـ أعلى الله أمرَهُ ـ بتزويدي من ثمار خزائن كُتُبهِ ، عمَّرها الله بطول عمره ، ما أستظهر به على ما أنا بصدَدِه. فكانَ الدليلَ يعينُ على السَّفَرِ بالزاد (٤) ، والطبيبَ يُتْحفُ المريضَ بالدَّواء والغذاء. وحين مضيتُ لِطِيَّتي ، وألْمَمْتُ بمقصدي ، وَجَدْتُ بركةَ حُسْنِ رأيه ، ويُمْنَ اعتزائي إلى خدمته ، قد سَبَقاني إليه وانتظراني به ، وحَصَّلْتُ مع البُعْدِ عن حَضْرَتِهِ ، في مُطَّرَحٍ من شُعَاعِ سعادته ، يُبَشِّرُ بالصُّنْعِ الجميل ، ويُؤذِنُ بالنُّجحِ القريب. وتُرِكْتُ والأدبَ والكُتَبَ ، أنْتَقي منها وأنتخِبُ وأفَصِّلُ وأُبَوِّبُ ، وأُقَسِّمُ وأُرَتِّبُ ، وأَنْتَجِعُ من الأئمة ، كالخليل (٥) والأصمعي ، وأبي عمرو الشيباني ، والكسائي ، والفراء ، وأبي زيد وأبي عبيدة ، وأبي عبيد ، وابن الأعرابي ، والنضر بن شميل وأَبَوَي العباس ، وابن دريد ، ونفطويه ، وابن خالويه والخارزنجي ، والأزهري ، ومن سواهم من ظرفاء الأدباء الذين جمعوا فصاحة العرب (٦) البلغاء ، إلى اتقان العلماء ، ووعُورَةِ اللغة ، إلى سُهُولَةِ البلاغة ،
__________________
(١) بإزائه في ( ح ) : « الشعبة : الطائفة ».
(٢) في ( ط ) : « جماله وطوله ».
(٣) في ( ط ) : « بالتأليف ».
(٤) في ( ط ) : « فكأن كالدليل يعين ذا السَّفَرِ بالزَّاد ».
(٥) في ( ط ) : مثل الخليل.
(٦) كلمة ( العرب ) : ليست في ( ط ).