والخلاصة انه لا يوجد ضابط كلي يمكن الاعتماد عليه في تفسير الأحلام بكاملها لأنها أنواع متضادة متباينة ، فمنها صدى لوساوس النفس وظروفها ، وهذا النوع واضح بوضوح مصدره. ومنها ما هو صورة طبق الأصل عن الحادث الذي يقع في اليقظة بعد الحلم ، وهذا النوع نجهل سره ومصدره. ومنها ما هو رموز وإشارات مسبقة الى الواقع المحسوس قبل وقوعه ، كالكواكب التي سجدت ليوسف ، والخبز الذي حمله الفتى المسجون فوق رأسه ، والبقرات والسنبلات التي رآها ملك مصر ، وهذا كسابقه لا نعرف له سرا ولا مصدرا. أما من قال بأن هذا النوع والذي قبله بشرى من الله ، أو حاسة في الإنسان فقد ادعى لنفسه العلم بالغيب ، ولا يرضى أن ينسب الى الجهل ، حتى بما حجب الله علمه عن عباده.
(وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ). في ذات يوم أصبح ملك مصر على رؤيا غريبة .. رأى بقرات يأكلهن بقرات مثلهن ، وما حدث مثل هذا قط ، وبالخصوص ان المهازيل أكلن السمان ، وأيضا رأى سنابل يابسات تلتوي على سنابل خضر في حقل واحد .. وهذا غريب عن المعتاد.
فدعا رجال حاشيته ، وكهنة دولته ، وقال لهم : (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ). فعجزوا عن التفسير و (قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ). المعنى واضح ، ولكن للرازي هنا كلاما مفيدا يتلخص بأن الله تعالى جعل رؤيا الملك سببا لخلاص يوسف (ع) ، وإذا أراد الله أمرا هيأ أسبابه ، وقد شاهد الملك ان الضعيف يستولي على القوي ، وهذا بعيد عن الفطرة ، فأيقن ان الرؤيا تنذر بالشرّ ، ولكنه جهل حقيقته وتفاصيله ، فتشوّق إلى المعرفة ، وجمع المعبرين وسألهم عن تفسير ما رأى ، ولكن الله أعماهم عن الحقيقة ليكون ذلك سببا لخلاص يوسف من سجنه .. ثم قال الرازي : ان المعبرين ما نفوا عن أنفسهم العلم بالتعبير ، وانما قسموا الرؤيا إلى قسمين : منتظمة يسهل معرفتها ، ومضطربة لا تفسير لها إلا الوهم والخيال ، وقالوا : ان رؤيا الملك من النوع الذي لا تفسير له ، أو لا يعرفون هم له تفسيرا ، وان المتبحر في علم الرؤيا قد يهتدي إلى تفسيره.