ولم يكن ذلك ممكنا إلا بمبرر ، وكان من شريعة آل يعقوب استرقاق السارق ، فدس غلمان يوسف بأمر منه المكيال في رحل أخيه بنيامين ، ثم نادى المنادي في أولاد يعقوب : يا اصحاب العير انكم سارقون ، فلا ترحلوا حتى ننظر في أمركم.
فدهش أولاد يعقوب لهذه المفاجأة العنيفة (قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ). قالوا هذا وهم على يقين من براءتهم .. وهذه هي المرة الأولى التي يسمعون فيها مثل هذه التهمة. (قالُوا) ـ اي غلمان يوسف ـ (نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ). وهذا الضامن هو الذي قال : أيتها العير انكم لسارقون على عهدة المفسرين ، وضمن بشرط ان يرجع السارق المكيال من تلقاء نفسه ، وهذه الآية تدخل في بابين من أبواب الفقه : الجعالة والضمان ، والجعالة هي الالتزام بمال معين لقاء عمل معين لأي عامل كان كقولك : من فعل كذا فله كيت. والضمان هو التعهد بالوفاء كقول المنادي : وأبا به زعيم أي ضامن للوفاء بحمل البعير من القمح ، وفي الحديث : «الزعيم غارم».
(قالُوا) ـ أي أولاد يعقوب ـ (تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ). ناقشوا وجادلوا وأقاموا الدليل على براءتهم ونزاهتهم ، وقالوا فيما قالوا : كيف تتهموننا بالسرقة ، وقد علمتم من نسبنا وسيرتنا في السفرة الأولى والثانية أنّا لم نأت إلى هذا البلد للخيانة والفساد ، وانما لنشتري الطعام لأهلنا .. وفي كثير من التفاسير ان أولاد يعقوب لما وجدوا بضاعتهم في رحلهم بعد عودتهم الى أهلهم في السفرة الاولى ظنوا انها وضعت فيه سهوا ، فلم يستحلوها ، بل حملوها من بلدهم الى مصر وارجعوها الى العزيز ، واشتهر ذلك عنهم ، حتى عرفوا بالأمانة والصلاح .. وهذا الذي ذكره المفسرون غير بعيد ، بل اليه يومئ قول أولاد يعقوب : (تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ).
وتسأل كيف استحل يوسف ان يدس المكيال في وعاء أخيه ، ويوجه التهمة لإخوته ، مع علمه ببراءتهم؟.
الجواب : أولا ان هذه واقعة خاصة ، ولها ظروفها ومبرراتها الخاصة ، فلا يجوز القياس عليها ، ولا النقض بها .. ثانيا : ان المقصود الأول بتهمة السرقة هو بنيامين أخو يوسف لأمه وأبيه ، وقد جرى ذلك برضا منه ، والاتفاق معه