احتجّ النظّام بقوله تعالى : ( وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ )(١) حيث كذّبهم في قولهم : ( نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ ) مع أنّ خبرهم كان مطابقا للواقع ، فكذبه لعدم اعتقادهم (٢).
والجواب : أنّ التكذيب إنّما هو في شهادتهم ؛ لأنّها تكون عن علم ، ولم تكن شهادتهم هذه عن علم. أو في استمرارها ؛ لأنّهم زعموا أنّها تستمرّ منهم ، فكذّبهم بانقطاعها بعد ذلك. وقد ذكر وجوه أخر (٣). وما ذكرنا كاف للمطلوب.
واحتجّ الجاحظ بقوله تعالى : ( أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ )(٤) ، حيث حصروا خبر النبيّ بنبوّته في كونه افتراء ، أو كلام مجنون. ولم يقصدوا بالأخير الصدق ؛ لعدم اعتقادهم ذلك ، ولا الكذب ؛ لأنّهم جعلوه قسيمه ، فأثبتوا واسطة بينهما وهم أهل اللسان (٥).
والظاهر أنّ قصد الجاحظ أنّه يثبت واسطتان من الأربع من الآية ؛ لأنّهم جعلوا خبره صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ بزعمهم الفاسد ـ إمّا الكذب ، وعبّر عنه بالافتراء ، الذي هو عدم المطابقة مع اعتقاد عدمها. ويظهر منه أنّ عدم المطابقة مع اعتقادها أو بدونه أصلا من الوسائط ، فثبت هنا واسطتان. وإمّا كلام مجنون ، وكونه واسطة بناء (٦) على عدم كونه عن اعتقاد عدم المطابقة ، وإلاّ فهو بزعمهم لم يكن مطابقا للواقع ، فهذا القسم يثبت من كلا شقّي الترديد ، ويبقى الصدق وكونه مطابقتهما معا. والواسطتان (٧) الاخريان غير معلومة من الآية ، ويعلم حالها بالمقايسة وعدم القائل بالفصل.
والجواب : أنّ الكذب أعمّ من الافتراء ؛ لكون القصد معتبرا في الثاني دون الأوّل ، فترديدهم خبره إنّما كان بين الافتراء وعدمه ، فكأنّهم قالوا : أكذب من قصد ، فيكون مفتريا ، أو من غير قصد ، فيكون مجنونا؟ فإنّ الكاذب من غير قصد يكون مجنونا. ففي الشقّ الثاني تحقّق الكذب الذي ليس بافتراء.
__________________
(١) المنافقون (٦٣) : ١.
(٢) راجع : منتهى الوصول لابن الحاجب : ٦٧ ، وشرح مختصر المنتهى ١ : ١٤٩ ، والمطوّل : ٣٧.
(٣) للمزيد راجع المطوّل : ٣٧ و ٣٨.
(٤) سبأ (٣٤) : ٨.
(٥) راجع : منتهى الوصول لابن الحاجب : ٦٦ ، وشرح مختصر المنتهى ١ : ١٤٨ و ١٤٩ ، والمطوّل : ٣٩.
(٦) خبر مرفوع.
(٧) عطف على « الصدق » أي يبقى ثلاثة امور غير معلومة من الآية. والضمير في « حالها » راجع إلى الثلاثة.