فإنّ الصحابة لم ينقرضوا حتّى حدث في عصرهم من التابعين مجتهدون ، وهم لم ينقرضوا حتّى لحقهم من تابعيهم آخرون ، وهلمّ جرّا ، فيجوز مخالفة كلّ طبقة من اللاحقين لطبقة سابقة عليه ؛ لعدم انقراضها ، وحينئذ لا ينعقد إجماع ؛ لأنّه يتوقّف على انقراض عصر كلّ من يجوز له المخالفة ، وهو محال عادة.
والقول بأنّه لا مدخليّة للاّحقين ؛ لأنّ المجمعين هم الأوّلون الموجودون عند حدوث الواقعة ، فالشرط انقراض عصرهم فقط (١) ، فاسد ؛ إذ لا شبهة في جواز مخالفة اللاحقين ؛ لأنّه لم يسبقهم إجماع يكون حجّة عليهم ؛ لعدم انعقاده بعد ، وهو (٢) لإمكان أن يكون قول المجمعين على الخطأ بوجود معارض ، وهو لا يرتفع بموتهم.
هذا ، واحتجّ المشترط ـ وهو أحمد بن حنبل وابن فورك ـ : بأنّه يمكن أن يوجد معارض ذهل عنه المجمعون ، وهم ـ ما داموا أحياء ـ لمّا كانوا مشتغلين بالبحث والنظر في أدلّة الأحكام ، فربّما عثروا عليه وتغيّر اجتهادهم الأوّل ، فلا يستقرّ الإجماع إلاّ بعد وفاتهم (٣).
وفيه : أنّ هذا بعيد ، ولو قدّر لا يعمل به ؛ لأنّ الإجماع قاطع ، ولا يرجع عنه بالاجتهاد. وهذا كما لو اطّلع عليه بعد الانقراض.
والقول بأنّه ربّما كان إجماعهم عن ظنّ (٤) ، ثمّ اطّلعوا على القاطع ، أو ظنّ (٥) أقوى منه ، ينتقض بإمكان الاطّلاع عليه بعد الانقراض أيضا.
والحلّ : أنّ تحقّق اتّفاق عن ظنّيّ مع وجود قاطع على خلافه محال عادة ، ومع وجود ظنّيّ أقوى منه بعيد جدّا ، مع أنّ الإجماع عند العامّة قاطع وإن حصل عن اجتهاد ودليل ظنّيّ ، فالحكم المجمع عليه يصير بعد الاتّفاق عليه قطعيّا وإن كان مستنده ظنّيّا ، فلا يجوز الرجوع عنه بالاجتهاد.
__________________
(١) حكاه الآمدي عن أحمد بن حنبل في الإحكام في أصول الأحكام ١ : ٣١٨.
(٢) كذا في النسختين. والظاهر زيادة « هو ».
(٣) حكاه عنهما الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ١ : ٣١٨.
(٤ و ٥) كذا في النسختين. والأولى : « ظنّيّ » كما فيما يأتي بعد سطرين.