أمّا الثاني (١) ، فظاهر. وكذا الثالث عند من يعمل بالقياس.
وأمّا الرابع ؛ فلأنّ العدول في مسألة عن مثل ما حكم به في نظائرها إلى خلافه لدليل أقوى ممّا لا ريب فيه ، ولذا اتّفق عليه الكلّ ، ومنه العدول عن حكم العموم والإطلاق للمخصّص والمقيّد.
فظهر أنّ الاستحسان بكلّ من هذه المعاني لا يقبل النزاع ، فإن أظهر الخصم استحسانا يصلح أن يكون محلاّ للنزاع ، يردّ بأنّه لا دليل عليه ، فليس بحجّة.
أقول : الاستحسان : استفعال من الحسن ، أي عدّ الشيء حسنا. ويطلق على ما يميل إليه الإنسان ويهواه من الصور والمعاني والأفعال.
والظاهر أنّ من قال بحجّيّته ـ وهم الحنفيّة (٢) والحنابلة (٣) ـ أرادوا منه إثبات الحكم بمجرّد كونه مستحسنا عند المجتهدين من غير دليل من قبل الشارع ، ولذا أنكره غيرهم من الخاصّة والعامّة ، حتّى قال الشافعي : « من استحسن فقد شرّع » (٤). وحينئذ يكون تعريفه الصحيح عندهم أحد الأوّلين ، ويكون مرادهم من الدليل المنقدح ما يختلج ببال المجتهد ويستحسنه وإن لم يكن من الأدلّة المعتبرة المعروفة ، ومن العادة ما لم يثبت من سنّة ، ولا من دليل آخر واستحسنه المجتهد بوجه آخر.
والتعريف الأوّل ناظر إلى ثاني المعنيين اللذين ذكرناهما ، ويعمّ جميع أفراد الاستحسان.
والثاني ناظر إلى أوّلهما ويخصّ بعض أفراده. والتعريفات الباقية صدرت هفوة ممّن لم يحصّل مرامهم.
وحمل النزاع على اللفظي ينافي طول التشاجر بينهم وبين سائر المسلمين في إثباته وتزييفه ، وإفراد الفريقين مبحثا خاصّا له في كتبهم ؛ مع أنّ إطلاق الاستحسان على ما هو مقبول شرعا لا يقبل النزاع ؛ لإطلاقه عليه في قوله تعالى : ( فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ )(٥) ، وقوله
__________________
(١) كذا في النسختين ، والظاهر تبديل « الثاني » و « الثالث » و « الرابع » بالثالث والرابع والخامس ؛ لأنّها المراد من البواقي.
(٢ و ٣) راجع : المعتمد ٢ : ٢٩٦ ، وفواتح الرحموت المطبوع مع المستصفى ٢ : ٣٢١ ، ونهاية السؤل ٤ : ٣٩٨.
(٤) حكاه عنه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٤ : ١٦٢.
(٥) الزمر (٣٩) : ١٨.