الثانية : أنّهم اختلفوا في مسائل كثيرة ، وأحدثوا فيها أقوالا مختلفة ، ثمّ أخذوا بقول واحد ، ولم يكن تمسّكهم فيها بالنصّ ، فتعيّن أن يكون تعويلهم على القياس ، كما روي أنّ عمر قضى في زوج وأمّ وإخوة لامّ وإخوة لأب وأمّ ، أنّ للامّ السدس ، وللزوج النصف ، وللإخوة من الامّ الثلث ، فقال الباقون : هب أنّ أبانا كان حمارا ، ألسنا من أمّ واحدة؟ فشرّك بينهم (١).
وما روي أنّ أبا بكر ورّث أمّ الامّ دون أمّ الأب ، فقال له بعض الأنصار : تركت التي لو كانت هي الميّتة ورث جميع ما تركت ؛ لأنّ ابن الابن عصبة ، وابن البنت لا يرث. وحاصله أنّ أمّ الأب أقرب ، فهي أحقّ بالإرث ، فرجع إلى التشريك بينهما. وأشباه ذلك كثيرة (٢).
الثالثة : أنّهم صرّحوا بالأخذ به وأشاروا إلى التشبيه في المسائل ، كقول عمر لأبي موسى : اعرف الأشباه والنظائر ، وقس الامور برأيك (٣).
وقول ابن عبّاس في إنكار قول زيد : « الجدّ لا يحجب الإخوة : ألا يتّقي الله زيد يجعل ابن الابن ابنا ، ولا يجعل أبا الأب أبا (٤). وليس غرضه التسمية ، بل أراد أنّ الجدّ بمنزلة الأب في حجب الإخوة ، كما أنّ ابن الابن بمنزلة الابن فيه » (٥).
الرابعة : أنّه قد نقل عنهم في وقائع القول بالرأي وهو القياس ، كقول أبي بكر : أقول في الكلالة برأيي (٦). وقول عمر : أقضي في الجدّ برأيي (٧).
وقول عثمان لعمر : إن اتّبعت رأيك فرأيك سديد (٨). وقول عليّ عليهالسلام : « اجتمع رأيي ورأي أبي بكر وعمر في أمّ الولد أن لاتباع ، وقد رأيت الآن بيعهنّ » (٩).
وأمّا بيان الملازمة ، فلأنّ عدم إنكارهم في مثل هذا الأصل ـ الذي يبتني عليه أكثر الأحكام والقضايا ، ويدوم أثره إلى الأبد في البرايا ـ يدلّ على الموافقة ، ولو ظهر منهم
__________________
(١) حكاه ابن قدامة في المغني ٧ : ٢٢ ، وابن الباجي في إحكام الفصول : ٥١٩.
(٢) راجع المغني لابن قدامة ٧ : ٢٢.
(٣ و ٤) حكاهما ابن الباجي في إحكام الفصول : ٥٢١.
(٥ و ٦) راجع : السنن الكبرى ٦ : ٢٤٨ ، وإحكام الفصول : ٥٢٥ باختلاف يسير ، والمحصول ٥ : ٥٥.
(٧) راجع : إحكام الفصول : ٥١٩ وفيه : « أقول برأيي » وهو كلام أبي بكر ، والمستصفى : ٢٨٧.
(٨) راجع إحكام الفصول : ٥٢١ وفيه : « إن تتّبع رأيك فرأيك أسدّ ».
(٩) راجع : السنن الكبرى ١٠ : ٣٤٨ ، وإحكام الفصول : ٥٢١. كلمة « الآن » لم ترد فيه.