ثم تجهز ابن القاسم وخرج إلى مكة ماشيا ، وخرج أشهب ماشيا ، وخرج معه عبد الله بن وهب ، وخرج معه سحنون. وكان أشهب يمد سماطا عظيما بطول الطريق ، وكان ابن وهب يمد سماطا دونه ، فيطعمون الناس ، وكان ابن القاسم لا يحضر من ذلك شيئا. فقال ابن وهب لأشهب : هل لك أن تحضر ابن القاسم طعامك؟ فقال : افعل ما بدا لك من الأمر إن قدرت على ذلك ، فجئت إلى ابن القاسم وقلت له : هل لك أن تحضر بنا على طعام أشهب؟
فسكت ، فما زلت به حتى أنعم بالمجىء ، فجاء وجلس ، وجلس أشهب إلى جانبه ، وجلست أنا ، فلما قدّم الطعام نظر ابن القاسم إلى الملح ، وجعل أصبعه فيه ثلاثا ثم قام وانصرف ، ولم يجسر عليه منا أحد (١). فلما خلوت به قلت له : لم اقتصرت على الملح وحده ولم تأكل غيره؟ فقال : إنى لا أعلم فيه شبهة.
وقال ابن النحوى : كان الإمام أشهب فقيها ، عالما ، زاهدا ، ورعا ، محدّثا ، خطيبا ، يعدّ من الفقهاء والمحدّثين والمتصدرين للخطابة ، وكان إذا خطب تصدع خطبته القلوب لفصاحته وبلاغته.
وحكى عنه الجوهرى الواعظ قال : كان إنسان من طلبته ، وكان من الفضلاء ، وكان له والد ، فمات وخلف مائة دينار ، وكانت نفسه تتوق إلى النساء ، فاستشار رجلا من أصحابه فى الزواج ، فقال له : عليك بشراء جارية ، فذهب إلى سوق الرقيق فوجد جارية كأنها البدر ، وينادى عليها بمائة دينار ، فاشتراها بما معه من المال وجاء بها إلى منزله ، ولم يكن معه ما ينفق عليها ، فأقامت عنده عشرة أيام فشاهدت ضيقا عظيما ، وافتتن هو بحبها ، فطلبت منه [أن يبيعها فى] السوق (٢) ، فنزل بها على كره وباعها ، ورجع إلى منزله ، فبات
__________________
(١) أى : لم يجرؤ منا أحد أن يكلمه فى ذلك.
(٢) ما بين المعقوفتين من عندنا ، ولم يرد فى «م» .. وفى الكواكب السيارة فقالت له : «إمّا أن تعيدنى إلى السوق أو أقتل نفسى».
[انظر المصدر السابق ص ٣٨].