ثم أخذ الفقهاء ـ سواء كانوا أصحاب مذاهب أم لم يكونوا ـ يتكاثرون وأصبحوا بالمئات ، حتى القرن الرابع الهجري حيث انتهى الاجتهاد ، وأما في القرن الثالث فقد كان الاجتهاد ولا يزال هو الشائع فيه ، وربما عهد بعض العلماء الى التخريج على قواعد وأصول من سبقهم من أهل العلم ، ولكن دون تقليدهم والتشبث بأقوالهم ، فلم ينقضِ القرن الثالث إلا ونحو خمسمائة مذهب كان موجوداً ، وان كان من المؤرخين من يعتقد بأن هذه المذاهب ، لم تكن في الحقيقة سوى فقهاء لم يكن لهم من المقلّدين والأتباع سوء قلة قليلة.
وتشعبت المدارس الفقهية في ذلك الوقت ، وتضاربت فتاوى الفقهاء الى درجة ، دبّت الصراعات بينهم من جهة ، وبين أتباعهم من جهة أخرى ، مما دعا الحاكم بيبرس البنداري ، الى سد باب الاجتهاد بمصر ، عام ٦٦٥ هـ ، لكي يضع حداً للاقتتال الفقهي بين العلماء والمجتهدين ، وكثرة الاجتهادات الفقهية التي أدت الى صراعات دموية في كثير من الأحيان.
والغريب ، لم يتراجع علماء ذلك الزمن وبعد قرون على نشوء المذاهب ، وخاصة المذاهب الاربعة ، عن الاحكام التي استنبطها اصحاب المذاهب ، بالرغم من اتضاح الكثير من الاحاديث الصحيحة التي تدحض استنتاجات أئمة المذاهب الفقهية ، فمضى اتباعهم على سنّتهم وأحكامهم ، وتمسّكوا بأقوالهم حيث تنطبق عليهم الآية الكريمة : قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (١).
وفي هذا المقام ، نتذكّر قول ابن حزم الذي قال فيه : ومن جاءه خبر عن رسول الله صلىاللهعليهوآله ، يقرّ أنه صحيح ، وأنّ الحجة تقوم بمثله ، أو قد صُحّح مثل ذلك الخبر في
__________________
(١) البقرة ١٧٠.