ومثله أن يقول القائل : أصنع ما شئت إلا على قتل النفس ، فإنك غير معذب ، فمعناه إلا إنك معذب في قتل النفس ، وقوله (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) أي لا يلامون هؤلاء إذا لم يحفظوا فروجهم من الأزواج ، وما ملكت أيمانهم من الإماء على ما أباحه الله لهم. ثم قال (فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ) ومعناه فمن طلب وراء ما أباحه الله له من الفروج إما بعقد الزوجية أو بملك اليمين (فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) الذين تعدوا حدود الله وخرجوا عما أباحه الله لهم فالابتغاء الطلب ومعنى (وَراءَ ذلِكَ) ما خرج عن حده من أي جهة كان ، وقد يكون وراءه بمعنى خلفه نقيض أمامه إلا أنه ـ ههنا ـ الخارج عن حده كخروج ما كان خلفه. والعادي الخارج عن الحق ، يقال : عدا فلان فهو عاد إذا اعتدى ، وعدا في مشيه يعدو عدوا إذا أسرع فيه ، وهو الأصل. والعادي الظالم بالإسراع إلى الظلم. وقوله (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) فالأمانة المعاقدة بالطمأنينة على حفظ ما تدعو إليه الحكمة. وقيل : الأمانة معاقدة بالثقة على ما تدعو إليه الحكمة. وقد عظم الله أمر الأمانة بقوله (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) ومن وحد لفظ الأمانة ، فلأنها للجنس تقع على القليل والكثير ، ومن جمع أراد اختلاف ضروبها. وقال قوم : المراد بالأمانة الإيمان وما أخذه الله على عباده من التصديق بما أوجب عليهم والعمل بما يجب عليهم العمل به ، ويدخل في ذلك الإيمان وغيره ، وقوله (راعُونَ) معناه حافظون. وقوله (وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ) مدح للمؤمنين بأنهم يقيمون الشهادة التي يلزمهم إقامتها. ومن وحد لفظ الشهادة ، فكما قلناه في الأمانة سواء ، والشهادة الأخبار بالشيء على أنه على ما شاهده ، وذلك أنه يكون عن مشاهدة للخبر به ، وقد يكون عن مشاهدة ما يدعو إليه (١).
__________________
(١) التبيان : ج ١٠ ، ص ١٢٤ ـ ١٢٥.