والأرضين زفرة من زفراتها لصعقوا وماتوا أجمعين ، وذابوا كما يذوب الرصاص والنحاس في النار ، فتقوم تمشي على قوائمها ، ولها زفير وشهيق ، وتخطر كما يخطر البعير الهائج ، وترمي من أفواهها ومناخرها شررا كالقصر كأنه جمالة صفر ، فتغشي الخلق ظلمة دخانها حتى لم يبق أحد ينظر إلى أحد من شدة الظلام ، إلا من جعل الله له نورا من صالح عمله ، فيضيء له تلك الظلمة ، فتقودها الزبانية الغلاظ الشداد لا يعصون الله فيما أمرهم [ويفعلون ما يؤمرون] حتى إذا نظرت الخلائق إليها تزفر وتشهق وتفور تكاد تميز من الغيظ ، ثم تقرب أنيابها إلى بعض ، وترمى بشرر عدد نجوم السماء ، كل شرارة بقدر السحابة العظيمة ، فتطير منها الأفئدة ، وترجف منها القلوب ، وتذهل الألباب ، وتحسر الأبصار ، وترتعد الفرائص.
ثم تزفر الثانية ، فلم يبق قطرة في عين مخلوق إلا وانهملت وانسكبت ، فتبلغ القلوب الحناجر من الكرب ، ويشتد الفزع ، ثم تزفر الثالثة فلو كان كل نبي عمل عمل سبعين نبيا لظن أنه مواقعها ، ولم يجد عنها مصرفا ، فلم يبق حينئذ نبي مرسل ولا ملك مقرب ولا ولي منتجب إلا وجثا على ركبتيه ، وبلغت نفسه تراقيه ، ثم يعرض لها محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم فتقول : مالي ومالك ـ يا محمد ـ فقد حرّم الله لحمك علي ، فلا يبقى يومئذ أحد إلا قال : نفسي نفسي ، إلا نبينا محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فإنه يقول : «أمتي أمتي ، وعدك وعدك يا من لا يخلف الميعاد» (١).
٢ ـ أقول : نعم فحينما يرى المذنب كل تلك الحوادث تهتز فرائصه ويتزلزل رعبا ، فيستيقظ من غفلته ويعيش حالة الهم والغمّ ، ويتحسر على كل لحظة مرّت من حياته بعدما يرى ما قدّمت يداه ، ولكن. هل للحسرة حينها من فائدة عليه؟! وكم سيتمنى المذنب لو تسنح له الفرصة ثانية للرجوع إلى الدنيا وإصلاح ما أفسد ، ولكنّه سيرى أبواب العودة مغلقة ، ولا من مخرج! ... ويودّ التوبة ... وهل للتوبة من معنى بعد غلق أبوابها؟! ويريد أن
__________________
(١) تحفة الأخوان : ص ١١١ «مخطوط».