المعدوم مكلّف (١). ولا بدّ من تحرير محلّ النزاع ، والإشارة إلى ما هو الحقّ.
فنقول : يتصوّر هاهنا صور :
الأولى : أن يكون المراد من تكليف المعدوم تكليفه تنجيزا ، بأن يطلب منه الفعل في حالة العدم ، ولا ريب في بطلانه ؛ فإنّ الفهم لو كان شرطا للتكليف ، فالوجود أولى بذلك.
والظاهر أنّ الأشعري أيضا لم يقل به.
الثانية : أن يكون المراد منه تكليفه في حالة الوجود ، بأن لا يكون التكاليف الشرعيّة متعلّقة بالمعدوم في حالة عدمه ، بل إذا صار موجودا وحصل فيه شرائط التكليف حدث تعلّقها به ، وعلى هذا لم يتوجّه على المعدوم شيء ، لا تنجيز التكليف ، ولا التعلّق العقلي. وإطلاق تكليف المعدوم على ذلك بناء (٢) على أنّه لمّا استمرّ الأمر الأزلي إلى زمان وجوده وصار بعد الوجود داخلا تحته ، فكان للأمر المذكور علاقة ما به في حال عدمه أيضا.
وغير خفيّ أنّ هذا لا ضير فيه ؛ لأنّ بناءه على أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أخبر الموجودين الحاضرين بأنّ كلّ معدوم يوجد ، فيكلّفه الله بما كلّفكم ، فالأوامر الإلهيّة لم تتعلّق بالمعدومين مطلقا ، ولكن لمّا علم الله أنّه يوجد المعدومين ، فأخبر الأنبياء بأن يخبروا الموجودين بأنّ من يوجد يكون مكلّفا بما يتضمّن هذه الأوامر ، فيحدث تعلّق الأمر بكلّ أحد بعد وجوده بخبر النبيّ. وهذا ممّا نقول به ، ولكنّ الإطلاق المذكور على ذلك غير مناسب ، والتعليل المذكور غير صالح لتصحيحه ، ومراد الأشاعرة أيضا ليس هذا.
الثالثة : أن يكون المراد منه التعلّق العقليّ ، وهو أنّ المعدوم الذي علم الله في الأزل أنّه يوجد فيما لا يزال قد تعلّق به التكليف الذي يفعله إذا وجد وحصل فيه شرائط التكليف ، وعلى هذا يتعلّق التكليف بالمعدوم ، إلاّ أنّه ليس تعلّقا تنجيزيّا.
واورد عليه : بأنّ مطلق التعلّق يتوقّف على متعلّق موجود ؛ لأنّ الإضافة تتوقّف على المضاف إليه (٣).
__________________
(١) وممّن صرّح به الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ١ : ٢٠٢.
(٢) خبر لإطلاق.
(٣) راجع : المحصول ٢ : ٢٥٥ ـ ٢٥٩ ، وتهذيب الوصول : ١١٧ ، والإحكام في أصول الأحكام ١ : ٢٠٢.