وهنا وجوه أخر من الأدلّة (١) تركناها ؛ لعدم تماميّتها.
واحتجّ الخصم : بوجوه ضعيفة عمدتها وجهان :
أوّلهما : قوله تعالى : ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ )(٢) و ( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً )(٣) ، ونحو ذلك من الآيات (٤) الدالّة على ذمّ اتّباع الظنّ. ولا ريب أنّ خبر الواحد لا يفيد إلاّ الظنّ ، فلا يجوز اتّباعه (٥).
وجوابه : أنّ ظنّ المجتهد من أخبار الآحاد وسائر الأدلّة مخصّص بالإجماع ، كما عرفت (٦) مرارا. على أنّ الظاهر من الظنّ في آيات الذمّ اختصاصه بالظنّ في الاصول ؛ لأنّها وردت ذمّا للكفّار ، وهذا يتأتّى في آية النهي (٧) أيضا.
وأجاب بعضهم (٨) : بالانتقاض بوجوب العمل بالظنّ في تفاصيل المجملات (٩) التي علم وجوبها عقلا من الامور الدنيويّة ، كخبر العدل في كون أسد على الطريق ، أو مضرّة شيء معيّن ، أو انكسار جدار مشرف على الانهدام ؛ فإنّه لمّا وجب عقلا اجتناب المضارّ إجمالا ، وجب عقلا اجتناب تفاصيله كالامور المذكورة ، ويجب العمل بالظنّ فيها ، ولذا لو لم يحترز عنها بخبر واحد يذمّه العقلاء.
أقول : بعض من قال بوجوب العمل بخبر الواحد عقلا احتجّ به عليه ، وقال : قد بعث النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لجلب المنافع ودفع المضارّ ، ومضامين أخبار الآحاد تفاصيل لهما ، وهي تفيد الظنّ ؛ فيجب العمل بها ، كما يجب به في الامور المذكورة (١٠).
__________________
(١) راجع : الذريعة إلى أصول الشريعة ٢ : ٥٣١ ـ ٥٣٤ ، والإحكام في أصول الأحكام ٢ : ٧١.
(٢) الإسراء (١٧) : ٣٦.
(٣) النجم (٥٣) : ٢٨.
(٤) منها : قوله تعالى : ( وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) ، البقرة (٢) : ١٦٩.
(٥) حكاه العلاّمة في نهاية الوصول إلى علم الأصول ٣ : ٤١١ ـ ٤١٣.
(٦) في ص ٣٢.
(٧) وهي قوله تعالى : ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) ، الإسراء (١٧) : ٣٦.
(٨) لعلّ المراد بهذا البعض هم : البصري في المعتمد ٢ : ١٠٦ و ١٠٧ ، وابن الحاجب في منتهى الوصول : ٧٦ ، والقاضي عضد الدين في شرح مختصر المنتهى ١ : ١٦٣.
(٩) أي مصاديق القواعد العقليّة.
(١٠) قاله البصري في المعتمد ٢ : ١٠٧.