في سكونهم لا ينظرون الى الحياة بغير نظرة العابث الساخر الذي لا يواجه الحقائق بقدر ما يزوغ منها. انهم جدوا مرة عندما اعتنقوا مذهب أبي بكر وعمر فلما تشعبت الآراء وانقسمت المذاهب وتحمس أصحاب الدعاوى وكثر الدجاجلة والمهديون والمتنبؤون نظروا الى هذه الفوضى حولهم بروح العابث الذي يلهو ولا يجد.
ولعل أصدق وصف يعطينا دليلا على صحة ما نرى ما جاء في خطبة «علي ابن محمد بن علي العباسي» وهو أحد دعاة العباسية فيما بعد وفيها يقول : «أما الكوفة وسوادها فشيعة علي. وأما البصرة فعثمانية تدين بالكف ، وأما الجزيرة فحرورية صادقة وأما أهل الشام فلا يعرفون غير طاعة بني أمية ، وأما مكة والمدينة فقد غلب عليهما أبو بكر وعمر!! (١) هذه النظرة العابثة التي شاعت في المكيين بسبب الثبات على ما ورثوا من أبي بكر وعمر أسلمتهم الى استقرار طويل دام إلى نهاية العهد الذي ندرسه عهد الأمويين. إلا إذا استثنينا بعض النزوات التي كانت تتألق في قصيدة شعرية أو مساجلة أدبية في مجلس من المجالس التي كان بعض الشباب يعقدها في المسجد حول الكعبة ـ كما تقدم بنا ـ يناقشون فيها حياتهم أو يعرضون فيها لنقد الأمويين ، ومع هذا فقد قاست هذه الأقلية من أصحاب النزوات ما لا يستهان به فقد ضيق يوسف بن محمد بن هشام على العرجى الشاعر في مكة لما بلغه من هجو بني أمية ثم جلده وسجنه الى أن مات في السجن بعد نحو تسع سنوات ، وضيق خالد بن عبد الله القسري على سعيد بن جبير وعذبه ، وضيق الوليد بن عروة السعدي آخر عمال بني أمية على جماعة من شبابها كانوا يسمرون في المسجد الى ما بعد منتصف الليل وقد بلغه أنهم يتحدثون في سياسة الأمويين ويتعرضون لنقدها فجعل عليهم الارصاد حتى
__________________
(١) احسن التقاسيم في معرفة الاقاليم للمقدسي ٣ / ٢٩٣ ، ٢٩٤.