إن سورة البقرة قد نزلت في أوائل الهجرة ، وقد صار للمسلمين بالهجرة كيان خاص وجوار خاص ، وبذلك كان أمامها هدفان :
الأول : نظم يأخذ بها المسلمون أنفسهم في عباداتهم ومعاملاتهم : شخصية ومدنية وجنائية.
والهدف الآخر : إرشاد إلى طريق المناقشة فيما كان مجاوروهم يثيرونه حول الدين والدعوة من شبه وتشكيكات ، وقد تجلى هذان الهدفان بصورة واضحة في سورة البقرة ، برز أحد الهدفين في نصفها الأول ، وبرز الهدف الثاني في نصفها الأخير ، واقرأ في الأول على وجه عام من قوله ـ تعالى ـ (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) (الآية ٤٠) إلى قوله ـ تعالى ـ : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ. وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) (الآية ١٧٦).
واقرأ في الهدف الثاني قوله ـ تعالى ـ : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) (الآية ١٧٧) إلى نهاية الآية ٢٨٣ : (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ).
وقد عرضت في هذا السبح الطويل بعد أن أجملت أوصاف الصادقين في إيمانهم المتقين في أعمالهم لجملة من الأحكام التي تسوس الأمة فيما بينها.
عرضت القصاص ، والوصية ، والصيام ، والقتال ، وبعض أحكام الحج. إلخ.
ثم تجيء سورة آل عمران ، فتصرف عناية خاصة إلى مناقشة النصارى في قضية الألوهية ، وإلى كشف بعض صور التزييف التي كان يصطنعها أهل الكتاب إخفاء لحق الإسلام ودعوته.
ثم ترشد المسلمين إلى ما يحفظ عليهم شخصيتهم ، ويقيهم شر الوقوع في مخالب الأعداء وترسم لهم في ذلك الطرق الحكيمة التي تجعل منهم قوة الجهاد في تأييد الحق وهزيمة الباطل.
وعلى أساس من مشاركة سورة النساء لزميلاتها المدنيات في أصل الهدف تناولت الأمرين : تنظيم جماعة المسلمين ، ومناقشة أهل الكتاب في موضوع الألوهية والرسالة ، غير أن عنايتها بجانب التنظيم كانت أشد من عنايتها بجانب المناقشة.
ثم تجيء سورة المائدة فتأخذ سبيل أخواتها أيضا ، فتشرع للمسلمين في خاصة أنفسهم ، وفي معاملة من يخالطون من أهل الكتاب ، مع الإرشاد إلى طرق محاجتهم والتنبيه على أخطائهم وتحريفهم للكلم عن مواضعه. وتذكيرهم بسيئاتهم مع أنبيائهم. وقد استغرق ذلك معظم السورة.