وقوله : (فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) حكاية لما وجهه نوح لقومه من إرشادات ، أى : قال لهم بتلطف وأدب تلك الكلمة التي وجهها كل رسول لمن أرسل إليهم : اعبدوا الله وحده لا شريك له ، فإنه هو المستحق للعبادة ، أما سواه فلا يملك نفعا أو ضرا.
وكلمة (غَيْرُهُ) قرئت بالحركات الثلاث ، بالرفع على أنها صفة لإله باعتبار محله الذي هو الرفع على الابتداء أو الفاعلية. وقرأ الكسائي بالجر باعتبار اللفظ ، وقرئ بالنصب على الاستثناء بمعنى ، ما لكم من إله إلا إياه.
ثم حكى القرآن أن نوحا حذر قومه من سوء عاقبة التكذيب ، وأظهر لهم شفقته بهم وخوفه عليهم فقال : (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أى : إنى أخاف عليكم إذا ما سرتم في طريق الكفر والضلال وتركتم عبادة الله وحده عذاب يوم عظيم ، ووصف اليوم بالعظم لبيان عظم ما يقع فيه ولتكميل الإنذار.
قال صاحب الكشاف : فإن قلت ما موقع الجملتين بعد قوله : (اعْبُدُوا اللهَ) قلت : الأولى ـ وهي ما لكم من إله غيره ـ بيان لوجه اختصاصه بالعبادة ، والثانية وهي ـ إنى أخاف ... إلخ ـ بيان الداعي إلى عبادته لأنه هو المحذور عقابه دون ما كانوا يعبدونه من دون الله. واليوم العظيم : يوم القيامة ، أو يوم نزول العذاب بهم وهو الطوفان» (١).
بهذا الأسلوب المقنع المهذب دعا نوح قومه إلى وحدانية الله. فكيف كان ردهم عليه؟
لقد ردوا عليه ردا سقيما حكاه القرآن في قوله : (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ).
الملأ : الأشراف والسادة من القوم. سموا بذلك لأنهم يملؤون العيون مهابة. وقيل : هم الرجال ليس فيهم نساء. والملأ : اسم جمع لا واحد له من لفظه : كرهط.
والجملة الكريمة مستأنفة ، كأنه قيل فماذا قالوا له؟ فقيل : قال الملأ ... إلخ والرؤية هنا قلبية ومفعولاها الضمير والظرف ، وقيل : بصرية فيكون الظرف في موضع الحال. أى : قال الأشراف من قوم نوح له عند ما دعاهم إلى وحدانية الله : إنا لنراك بأمرك لنا بعبادة الله وحده وترك آلهتنا في انحراف بين عن طريق الحق والرشاد.
يقال : ضل الطريق يضل وضل عنه ضلالا وضلالة ، أى زل عنه فلم يهتد إليه ، وجعلوا الضلال ظرفا له (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) مبالغة في وصفهم له بذلك وزادوا في المبالغة بأن أكدوا ذلك بالجملة المصدرة بإن ولام التأكيد.
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٢٧١.