فيهم بذلك ، كقولهم : ثبت عند فلان القاضي كذا أى : في حكمه ، ولذا قدم الصغار على العذاب لأنه يصيبهم في الدنيا.
قال ابن كثير : ولما كان المكر غالبا إنما يكون خفيا ، وهو التلطف في التحيل والخديعة ، قوبلوا بالعذاب الشديد من الله يوم القيامة جزاء وفاقا ولا يظلم ربك أحدا. وجاء في الصحيحين عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «ينصب لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة فيقال : هذه غدرة فلان بن فلان» والحكمة في ذلك أنه لما كان الغدر خفيا لا يطلع عليه الناس ، فيوم القيامة يصير علما منشورا على صاحبه بما فعل» (١).
ثم بين ـ سبحانه ـ حال المستعد لهداية الإسلام ، وحال المستعد للضلال فقال :
(فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ).
أى : فمن يرد الله أن يهديه للإسلام ، ويوفقه له ، يوسع صدره لقبوله ، ويسهله له بفضله وإحسانه.
وشرح الصدر : توسعته ، يقال : شرح الله صدره فانشرح ، أى : وسعه فاتسع ، وهو مجاز أو كناية عن جعل النفس مهيأة لحلول الحق فيها. مصفاة عما يمنعه وينافيه.
روى عبد الرازق أن النبي صلىاللهعليهوسلم سئل عن هذه الآية : كيف يشرح صدره؟ فقال : «نور يقذف فينشرح له وينفسح ، قالوا : فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال : الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت» (٢).
وقوله : (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) أى ومن يرد أن يضله لسوء اختياره ، وإيثاره الضلالة على الهداية يصير صدره ضيقا متزايد الضيق لا منفذ فيه للإسلام.
والحرج : مصدر حرج صدره حرجا فهو حرج ، أى : ضاق ضيقا شديدا. وصف به الضيق للمبالغة ، كأنه نفس الضيق ، وأصل الحرج مجتمع الشيء ويقال : للحديقة الملتفة الأشجار التي يصعب دخولها حرجة.
وقرئ حرجا ـ بكسر الراء ـ صفة لقوله (ضَيِّقاً).
روى أن جماعة من الصحابة قرءوا أمام عمر ـ رضى الله عنه ـ «ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا» بكسر الراء فقال عمر : يا فتى ما الحرجة فيكم؟ قال الحرجة فينا الشجرة تكون بين الأشجار التي لا تصل إليها راعية ولا وحشية. فقال عمر : كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير» (٣).
__________________
(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٧٤.
(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٧٤.
(٣) تفسير الآلوسى ج ٨ ص ٢.