الاستدراج : ـ كما قال القرطبي ـ هو الأخذ بالتدريج منزلة بعد منزلة. والدرج لف الشيء ، يقال : أدرجته ودرجته. ومنه أدرج الميت في أكفانه. وقيل : هو من الدرجة ، فالاستدراج أن يحط درجة بعد درجة إلى المقصود. قال الضحاك : كلما جددوا لنا معصية جددنا لهم نعمة» (١).
وقال صاحب الكشاف : الاستدراج : استفعال من الدرجة بمعنى الاستصعاد أو الاستنزال درجة بعد درجة ، ومنه : درج الصبى إذا قارب بين خطوه ، وأدرج الكتاب. طواه شيئا بعد شيء ، ودرج القوم : مات بعضهم في أثر بعض. ومعنى (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) سنستدنيهم قليلا قليلا إلى ما يهلكهم ويضاعف عقابهم. (مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) ما يراد بهم. وذلك أن يواتر الله نعمه عليهم مع انهماكهم في الغي ، فكلما جدد عليهم نعمة ، ازدادوا بطرا وجددوا معصية ، فيتدرجون في المعاصي بسبب ترادف النعم ، ظانين أن متواترة النعم محبة من الله وتقريب. وإنما هي خذلان منه وتبعيد ، فهو استدراج من الله ـ تعالى ـ نعوذ بالله منه» (٢).
وقد قيل : إذا رأيت الله ـ تعالى ـ أنعم على عبد وهو مقيم على معصيته فاعلم أنه مستدرج.
وقوله : (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) الإملاء : الإمداد في الزمن والإمهال والتأخير ، مشتق من الملاوة والملوة ، وهي الطائفة الطويلة من الزمن. والملوان : الليل والنهار.
ويقال : أملى له إذا أمهله طويلا ، وأملى للبعير : إذ أرخى له في الزمام ووسع له في القيد ليتسع المرعى.
والكيد كالمكر ، وهو التدبير الذي يقصد به غير ظاهره بحيث ينخدع المكيد له بمظهره فلا يفطن له حتى ينتهى إلى ما يسوءه من مخبره وغايته. وإضافته إلى الله ـ تعالى ـ يحمل على المعنى اللائق به ، كإبطال مكر أعدائه أو إمدادهم بالنعم ثم أخذهم بالعذاب.
ومتين : من المتانة بمعنى الشدة والقوة. ومنه المتن للظهر أو للحم الغليظ.
والمعنى. والذين كذبوا بآياتنا سنستدنيهم قليلا قليلا إلى ما يهلكهم ويضاعف عقابهم بكثرة النعم بين أيديهم ، حتى يفاجئهم الهلاك من حيث لا يعلمون أن صنعنا هذا معهم هو لون من الاستدراج. وأمهل لهؤلاء المكذبين المستدرجين في العمر ، وأمد لهم في أسباب الحياة الرغدة ، إن كيدي شديد متين لا يدافع بقوة ولا بحيلة. وفي الحديث الشريف الذي رواه الشيخان عن أبى موسى أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن الله ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته».
__________________
(١) تفسير القرطبي ج ٧ ص ٣٢٩.
(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ١٨٢.