فأنت ترى أن هودا في هذا الرد الحكيم على قومه ، قد نفى عن نفسه تهمة السفاهة كما نفى أخوه نوح من قبله عن نفسه تهمة الضلالة ، ثم بين لهم بعد ذلك وظيفته وطبيعة رسالته ، ثم أخبرهم بعد ذلك بمقتضى أخوته لهم ليس معقولا أن يكذب عليهم أو يخدعهم ـ فإن الرائد لا يكذب أهله ـ ، وإنما هو ناصح أمين يهديهم إلى ما يصلحهم ويبعدهم عما يسوءهم :
قال صاحب الكشاف : «وفي إجابة الأنبياء ـ عليهمالسلام ـ على من نسبهم إلى الضلالة والسفاهة بما أجابوهم به من الكلام الصادر عن الحلم والإغضاء ، وترك المقابلة بما قالوا لهم ، مع علمهم بأن خصومهم أضل الناس وأسفههم ـ في إجابتهم هذه أدب حسن ، وخلق عظيم ، وحكاية الله ـ عزوجل ـ ذلك ، تعليم لعباده كيف يخاطبون السفهاء ، وكيف يغضون عنهم ويسبلون أذيالهم على ما يكون منهم» (١).
ونلمس من خلال التعبير القرآنى أن قوم هود قد تعجبوا من اختصاص هود بالرسالة كما تعجب قوم نوح من قبلهم من ذلك ، فأخذ هود ـ عليهالسلام ـ في إزالة هذا العجب من نفوسهم ، فقال :
(أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ) أى : أكذبتم وعجبتم من أن جاءكم ذكر وموعظة من ربكم على لسان رجل منكم تعرفون صدقه ونسبه وحسبه ، إن ما عجبتم له ليس موقع عجب ، بل هو عين الحكمة فقد اقتضت رحمة الله أن يرسل لعباده من بينهم من يرشدهم إلى الطريق القويم و (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ).
ثم أخذ في تذكيرهم بواقعهم الذي يعيشون فيه لكي يحملهم على شكر الله فقال : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) أى : اذكروا بتأمل واعتبار فضل الله عليكم ونعمه حيث جعلكم مستخلفين في الأرض من بعد قوم نوح الذين أغرقوا بالطوفان لكفرهم وجحودهم.
قال الآلوسى ما ملخصه : و «إذ» منصوب على المفعولية لقوله : (وَاذْكُرُوا) أى : اذكروا هذا الوقت المشتمل على النعم الجسام. وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه مع أنه المقصود بالذات للمبالغة في إيجاب ذكره ، ولأنه إذا استحضر الوقت كان هو حاضرا بتفاصيله.
وهو معطوف على مقدر كأنه قيل : لا تعجبوا وتدبروا في أمركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح» (٢).
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ١١٦.
(٢) تفسير الآلوسى ج ٨ ص ١٥٦.