والثاني : أنه ليس منهم لقوله ـ تعالى ـ : (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) فهو أصل الجن ، كما أن آدم أصل الإنس ، ولأنه خلق من نار ، والملائكة خلقوا من نور ، ولأن له ذرية ولا ذرية للملائكة.
ففي هاتين الآيتين بيان لنعمتين عظيمتين من نعم الله على عباده :
أولاهما : نعمة التمكين في الأرض واتخاذهم إياها وطنا مزودا بضروب شتى مما يحتاجون إليه من معايشهم وما به قوام حياتهم وكمالها.
وثانيهما : نعمة خلقهم من أب واحد ، تجمعهم به رحم واحدة ، وبسببها كانوا خلفاء في الأرض وفي عمارة الكون ، وفضلوا على كثير من الخلق ، فكان الواجب عليهم أن يقابلوهما بالشكر والإيمان.
ثم حكى القرآن الكريم الأسباب التي حملت إبليس على عدم السجود لآدم فقال :
(قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (١٢)
أى : قال الله ـ تعالى ـ لإبليس : ما ألزمك واضطرك إلى أن لا تسجد لآدم؟ فالمنع مجاز عن الإلجاء والاضطرار. أو ما حملك ودعاك إلى ألا تسجد؟ فالمنع مجاز عن الحمل. والاستفهام للتوبيخ والتقريع.
و (لا) في قوله : (أَلَّا تَسْجُدَ) مزيدة للتنبيه على أن الموبخ عليه ترك السجود. وتوكيد لمعنى الفعل الذي دخلت عليه وتحقيقه ، كأنه قيل : ما منعك أن تحقق السجود وتلزمه نفسك.
وقد حكى القرآن ما أجاب به إبليس فقال : (قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) أى : قال إبليس أنا خير من آدم ، لأنى مخلوق من عنصر النار الذي هو أشرف من عنصر الطين ، والأشرف لا يليق به الانقياد لمن هو دونه.
قال ابن كثير : «وقول إبليس ـ لعنه الله ـ (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) .. إلخ. من العذر الذي هو أكبر من الذنب ، إذ بين بأنه خير من آدم لأنه خلق من النار وآدم خلق من الطين ، فنظر اللعين إلى أصل العنصر ولم ينظر إلى التشريف العظيم ، وهو أن الله ـ تعالى ـ خلق آدم بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وقاس قياسا فاسدا في مقابلة نص ، وهو قوله ـ تعالى ـ : (فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) ، فشذ من بين الملائكة لترك السجود فأبعده الله عن رحمته ، وكان قياسه فاسدا لأن النار ليست