ورحم الله ابن كثير فقد قال عند تفسيره لهذه الآية. وهكذا حال الفجار ، إنما يرون الأبرار في ضلالة ، كقوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ) (١).
(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ ، وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) (٢) إلى غير ذلك من الآيات (٣).
ويرد نوح على قومه بأسلوب عف مهذب ، فينفى عن نفسه الضلالة ، ويكشف لهم عن حقيقة دعوته ومصدرها فيقول ـ كما حكى القرآن عنه ـ :
(قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ) أى : قال نوح لقومه مستميلا لقلوبهم : يا قوم ليس بي أدنى شيء مما يسمى بالضلال فضلا عن الضلال المبين الذي رميتمونى به ، فقد نفى الضلال عن نفسه الكريمة على أبلغ وجه ، لأن التاء في ـ ضلالة ـ للمرة الواحدة منه ، ونفى الأدنى أبلغ من نفى الأعلى ، والمقام يقتضى ذلك ، لأنهم لما بالغوا في رميه بالضلال المبين ، رد عليهم بما يبرئه من أى لون من ألوانه. وفي تقديم الظرف (بي) تعريض بأنهم هم في ضلال واضح.
ثم قفى على نفى الضلالة عنه بإثبات مقابلها لنفسه وهي الهداية والتبليغ عن الله ـ تعالى ـ فقال : (وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي ، وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ).
فأنت ترى أن نوحا ـ عليهالسلام ـ بعد أن نفى عن نفسه أى لون من ألوان الضلالة وصف نفسه بأربع صفات كريمة :
أولها : قوله : (وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أى : لست بمنجاة من الضلال الذي أنتم فيه فحسب ، ولكني فضلا عن ذلك رسول من رب العالمين إليكم لهدايتكم وإنقاذكم مما أنتم فيه من شرك وكفر.
قال الجمل : (وقد جاءت لكن هنا أحسن مجيء لأنها بين نقيضين ، لأن الإنسان لا يخلو من أحد شيئين : ضلال أو هدى ، والرسالة لا تجامع الضلال و (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) صفة لرسول ومن لابتداء الغاية) (٤).
وثانيها : قوله : (أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي) أى : أبلغكم ما أوحاه الله إلى من الأوامر والنواهي ، والمواعظ والزواجر ، والبشائر والنذائر ، والعبادات والمعاملات.
قال الآلوسى : وجمع الرسالات مع أن رسالة كل نبي واحدة ، رعاية لاختلاف أوقاتها أو
__________________
(١) سورة المطففين الآية ٢٢.
(٢) سورة الأحقاف الآية ١١.
(٣) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٢٢٢.
(٤) حاشية الجمل ج ٢ ص ١٥٤.