وهذه الآية الكريمة من الآيات التي قيل أنها مدنية ، والصحيح أنها مكية ، ويشهد لذلك سبب النزول الذي سقناه عن عمر ـ رضى الله عنه ـ فقد قال لعبد الله بن سلام : «إن الله أنزل على نبيه بمكة» إلخ.
ويؤكد كونها مكية ـ أيضا ـ سياق الآيات قبلها ، فالآية التي قبلها وهي قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً). إلخ. فيها شهادة من الله لنبيه صلىاللهعليهوسلم بأنه صادق فيما يبلغه عن ربه ، والآية التي معنا فيها شهادة من أهل الكتاب بأنهم يعرفون صدق محمد صلىاللهعليهوسلم كما يعرفون أبناءهم ، ومن المعروف أن أهل مكة كانوا يسألون أهل الكتاب عن النبي صلىاللهعليهوسلم وفضلا عن ذلك لم يرد نص صحيح يثبت أن هذه الآية الكريمة قد نزلت بالمدينة.
قال بعض العلماء : ويظهر أنهم ـ أى القائلون بأن الآية مدنية ـ لما وجدوا الحديث في هذه الآية عن أهل الكتاب ، ووجدوا أن هذه الآية نظيرة لآية أخرى مدنية تبدأ بما بدأت به ، وهي قوله ـ تعالى ـ : في سورة البقرة (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) الآية ١٤٦ ، ومن المعروف أن صلة الإسلام بأهل الكتاب إنما كانت بعد الهجرة وفي المدينة دون مكة ، لما وجدوا هذا قرروا أن الآية مدنية ، فالمسألة ليست إلا اجتهادا حسب رواية مسندة ، وهو اجتهاد غير صحيح (١).
ولما كان هذا الخسران أكبر ظلم ظلم به هؤلاء الكفار أنفسهم فقد قال ـ تعالى ـ في شأنهم : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ).
أى : لا أحد أشد ظلما من أولئك المشركين الذين كذبوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وإن هؤلاء الذين سقطوا في أقصى دركات الكذب لن يفوزوا ولن يفلحوا ، والاستفهام في الآية الكريمة إنكارى للنفي ، وفيه توبيخ للمشركين.
ثم بين ـ سبحانه ـ بعض أحوالهم عند ما يحشرون يوم القيامة ، فقال ـ تعالى ـ :
(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى
__________________
(١) سورة الأنعام والأهداف الأولى للإسلام ص ٥ لفضيلة الأستاذ محمد المدني.