وما قصرت في نصيحتهم ولكنهم لم يستمعوا إلى ، بل قهروني واستضعفوني ، وأوشكوا أن يقتلوني عند ما بذلت أقصى طاقتي لأخفف هياجهم واندفاعهم نحو العجل ، فلا تفعل بي ما هو أمنيتهم ومحل شماتتهم ، من الاستهانة بي والإساءة إلى ، فإن من شأن الأخوة التي بيننا أن تكون ناصرة معينة حين يكون هناك أعداء ، ولا تجعلني في زمرة القوم الظالمين ، فإنى برىء منهم ، ولقد نصحتهم ولكنهم قوم لا يحبون الناصحين.
وهنا اقتنع موسى ـ عليهالسلام ـ ببراءة هارون من مغبة التقصير فقال :
(رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) أى : قال موسى ليرضى أخاه ، وليظهر لأهل الشماتة رضاه عنه بعد أن ثبتت براءته : رب اغفر لي ما فرط منى من قول أو فعل فيه غلظة على أخى. واغفر له كذلك ما عسى أن يكون قد قصر فيه مما أنت أعلم به منى ، وأدخلنا في رحمتك التي وسعت كل شيء فأنت أرحم بعبادك من كل راحم.
وبهذا يكون القرآن الكريم قد برأ ساحة هارون من التقصير ، وأثبت أنه قد عرض نفسه للأذى في سبيل أن يصرف عابدى العجل عن عبادته وفي ذلك تصحيح لما جاء في التوراة (الفصل الثاني والثلاثين من سفر الخروج) من أن هارون ـ عليهالسلام ـ هو الذي صنع العجل لبنى إسرائيل ليعبدوه في غيبة موسى ـ عليهالسلام ـ.
ثم أصدر القرآن الكريم حكمه الفاصل في شأن عبدة العجل فقال تعالى :
(إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ).
والمعنى. إن الذين اتخذوا العجل معبودا ، واستمروا على ضلالتهم سيحيق بهم سخط شديد من ربهم ، ولا تقبل توبتهم إلا إذا قتلوا أنفسهم ، وسيصيبهم كذلك هوان وصغار في الحياة الدنيا ، وبمثل هذا الجزاء نجازي المفترين جميعا في كل زمان ومكان ، لخروجهم عن طاعتنا ، وتجاوزهم لحدودنا ، فهو جزاء متكرر كلما تكررت الجريمة من بنى إسرائيل وغيرهم.
ثم فتح ـ سبحانه ـ بابه لكل تائب صادق في توبته فقال تعالى : (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).
والمعنى : والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعد فعلهم لها توبة صادقة نصوحا ، ورجعوا إلى الله ـ تعالى ـ معتذرين نادمين مخلصين الإيمان له ، فإن الله ـ تعالى ـ من بعد الكبائر التي أقلعوا عنها لساتر عليهم أعمالهم السيئة ، وغير فاضحهم بها ، رحيم بهم وبكل من كان مثلهم من التائبين.