فالمراد بهذه الجملة الكريمة بيان أن ما في هذا القرآن من أحكام وتفصيل وهداية ، لم يحصل عبثا ، وإنما حصل مع العلم التام بكل ما اشتمل عليه من فوائد متكاثرة ، ومنافع متزايدة.
وقرأ ابن محيص «فضلناه» بالضاد المعجمة. أى : فضلناه على سائر الكتب عالمين بأنه حقيق بذلك.
وقوله : (هُدىً وَرَحْمَةً) حال من مفعول «فصلناه» وقرئ بالجر على البدلية من «علم» وبالرفع على إضمار المبتدأ ، أى : هو هدى عظيم ورحمة واسعة.
وقال : (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) لأنهم هم المنتفعون بهديه ، والمستجيبون لتوجيهاته ثم بين ـ سبحانه ـ عاقبة هؤلاء الذين كذبوا بالقرآن الذي أنزله الله هداية ورحمة فقال : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ).
النظر هنا بمعنى الانتظار والتوقع لا بمعنى الرؤية. فالمراد بينظرون : ينتظرون ويتوقعون ، وتأويل الشيء : مرجعه ومصيره الذي يئول إليه ذلك الشيء والاستفهام بمعنى النفي.
والمعنى : إن هؤلاء المشركين ليس أمامهم شيء ينتظرونه بعد أن أصروا على شركهم إلا ما يئول إليه أمر هذا الكتاب وما تتجلى عنه عاقبته ، من تبين صدقه ، وظهور صحة ما أخبر به من الوعد والوعيد والبعث والحساب ، وانتصار المؤمنين به واندحار المعرضين عنه.
فإن قيل : كيف ينتظرون ذلك مع كفرهم به؟
فالجواب : أنهم قبل وقوع ما هو محقق الوقوع ، صاروا كالمنتظرين له ، لأن كل آت قريب ، فهم على شرف ملاقاة ما وعدوا به ، وسينزل بهم لا محالة.
ثم بين ـ سبحانه ـ حالهم يوم الحساب فقال : (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ).
أى : يوم يأتى يوم القيامة الذي أخبر عنه القرآن ، والذي يقف الناس فيه أمام خالقهم للحساب ، يقول هؤلاء الكافرون الذين جحدوا هذا اليوم عند ما تكشف لهم الحقائق ، (قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) وتبين صدقهم ولكننا نحن الذين كذبناهم وسرنا في طريق الضلال ، (فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا) في هذه الساعة العصيبة ويدفعوا عنا ما نحن فيه من كرب وبلاء ، أو نرد إلى الدنيا فنعمل عملا صالحا غير الذي كنا نعمله من الجحود واللهو واللعب.
أى : أنه لا طريق لنا إلى الخلاص مما نحن فيه من العذاب الشديد إلا أحد هذين الأمرين ، وهو أن يشفع لنا شفيع فلأجل تلك الشفاعة يزول هذا العذاب ، أو يردنا الله إلى الدنيا حتى نعمل غير ما كنا نعمل.