وجملة (قالَ هذا رَبِّي) مستأنفة استئنافا بيانيا جوابا لسؤال ينشأ عن مضمون جملة «رأى كوكبا» وهو أن يسأل سائل : فماذا كان منه عند ما رآه ، فيكون قوله : (قالَ هذا رَبِّي) جوابا لذلك.
وقوله (فَلَمَّا أَفَلَ) أى : غاب وغرب : يقال أفل الشيء يأفل أفلا وأفولا أى : غاب.
وقوله (قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) أى : لا أحب عبادة الأرباب المنتقلين من مكان إلى مكان ومن حال إلى حال ، لأن الأفول غياب وابتعاد ، وشأن الإله الحق أن يكون دائم المراقبة لتدبير أمر عباده.
وجاء بالآفلين بصيغة جمع المذكر المختص بالعقلاء بناء على اعتقاد قومه أن الكواكب عاقلة متصرفة في الأكوان.
ثم بين ـ سبحانه ـ حالة ثانية من الحالات التي برهن بها إبراهيم على وحدانية الله فقال ـ تعالى ـ : (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي) أى : فلما رأى إبراهيم القمر مبتدئا في الطلوع ، منتشرا ضوؤه من وراء الأفق قال هذا ربي.
وبازغا : مأخوذ من البزوع وهو الطلوع والظهور. يقال : بزغ الناب بزوغا إذا طلع.
(فَلَمَّا أَفَلَ قالَ : لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ).
أى : فلما أفل القمر كما أفل الكوكب من قبله قال مسمعا من حوله من قومه : لئن لم يهدني ربي إلى جناب الحق وإلى الطريق القويم الذي يرتضيه لأكونن من القوم الضالين عن الصراط المستقيم ، لأن هذا القمر الذي يعتوره الأفول ـ أيضا ـ لا يصلح أن يكون إلها.
وفي قول إبراهيم لقومه هذا القول تنبيه لهم لمعرفة الرب الحق وأنه واحد وأن الكواكب والقمر كليهما لا يستحقان الألوهية. وفي هذا تهيئة لنفوس قومه لما عزم عليه من التصريح بأن له ربا غير الكواكب. ثم عرض بقومه بأنهم ضالون ، لأن قوله «لأكونن من القوم الضالين» يدخل على نفوسهم الشك في معتقدهم أنه لون من الضلال.
وإنما استدل على بطلان كون القمر إلها بعد أفوله ، ولم يستدل على بطلان ذلك بمجرد ظهوره مع أن أفوله محقق ، لأنه أراد أن يقيم استدلاله على المشاهدة لأنها أقوى وأقطع لحجة الخصم.
ثم حكى القرآن الحالة الثالثة والأخيرة التي استدل بها إبراهيم على بطلان الشرك فقال ـ تعالى ـ (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ) أى : فلما رأى إبراهيم الشمس مبتدئة في الطلوع وقد عم نورها الآفاق ، قال مشيرا إليها (هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ) أى : أكبر الكواكب جرما وأعظمها قوة ، فهو أولى بالألوهية ان كان المدار فيها على التفاضل والخصوصية.