٥ ـ ولعل أقرب الأقوال إلى الصواب أن هذه الحروف المقطعة قد وردت في بعض سور القرآن على سبيل الإيقاظ والتنبيه للذين تحداهم القرآن ، فكأن الله ـ تعالى ـ يقول لأولئك المعارضين في أن القرآن من عند الله : هاكم القرآن ترونه مؤلفا من كلام هو جنس ما تؤلفون منه كلامكم. ومنظوما من حروف هي من جنس الحروف الهجائية التي تنظمون منها حروفكم ، فإن كنتم في شك من كونه منزلا من عند الله فهاتوا مثله ، أو ادعوا من شئتم من الخلق لكي يعاونوكم في ذلك.
ومما يشهد بصحة هذا الرأى أن الآيات التي تلى هذه الأحرف المقطعة تتحدث عن الكتاب المنزل معجزة للرسول صلىاللهعليهوسلم وكثيرا ما تبدأ هذه الآيات باسم الإشارة صراحة ، مثل قوله تعالى : (الم. ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) أو ضمنا مثل قوله ـ تعالى ـ : في أول سورة الأعراف (المص. كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ) وأيضا فإن هذه السور تجعل هدفها الأول منذ بدئها إلى نهايتها اثبات الرسالة عن طريق هذا الكتاب المنزل.
هذه خلاصة موجزة لآراء العلماء في الحروف المقطعة التي افتتحت بها بعض السور القرآنية ، ومن أراد مزيدا لذلك فليرجع ـ مثلا ـ إلى كتاب «البرهان» للزركشى ، وإلى كتاب «الإتقان» للسيوطي (١).
ثم مدح ـ سبحانه ـ الكتاب الذي أنزله على نبيه صلىاللهعليهوسلم فقال : (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ).
المراد بالكتاب جملة القرآن الكريم ، وقيل : المراد به هنا السورة. وحرج الصدر ضيقه وغمه ، مأخوذ من الحرجة التي هي مجتمع الشجر المشتبك الملتف الذي لا يجد السالك فيه طريقا يخرج منه.
والمعنى ، هذا كتاب كريم أنزلناه إليك يا محمد فيه هداية الثقلين ، فبلغ تعاليمه للناس. ولا تحزن أو تضجر إذا وجدت من بعضهم صدودا عنه ، فأنت عليك البلاغ ونحن علينا الحساب.
ولقد حكى لنا القرآن أن المشركين وصفوا النبي صلىاللهعليهوسلم بأنه ساحر. أو مجنون ، كما وصفوا القرآن بأنه ليس من عند الله ، فكان صلىاللهعليهوسلم يضيق صدره لذلك.
قال تعالى : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ).
فالمقصود بقوله ـ تعالى ـ : (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) تقوية قلب
__________________
(١) راجع الإتقان في علوم القرآن ج ٣ ص ١ للإمام السيوطي. طبعة مكتبة المشهد الحسيني.