ثم حكى القرآن لونا من ألوان مكرهم فقال : (وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا : لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ).
أى : وإذا جاءت أولئك المشركين الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم «لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها» حجة قاطعة تشهد بصدقك يا محمد فيما تبلغه عن ربك ، قالوا حسدا لك ، لن نؤمن لك يا محمد حتى نعطى من الوحى والرسالة مثلما أعطى رسل الله ، وأضافوا الإيتاء إلى رسل الله ، لأنهم لا يعترفون بما أوتيه صلىاللهعليهوسلم من الوحى والرسالة.
روى أن الوليد بن المغيرة قال للنبي صلىاللهعليهوسلم : لو كانت النبوة حقا لكنت أنا أولى بها منك لأنى أكبر منك سنا وأكثر مالا فأنزل الله هذه الآية».
وقال مقاتل : نزلت في أبى جهل وذلك أنه قال : زاحمنا بنو عبد المطلب في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا : منا نبي يوحى إليه ، والله لا نؤمن به ولا نتبعه أبدا إلا أن يأتينا وحى كما يأتيه ، فأنزل الله هذه الآية» (١).
وقد رد الله ـ تعالى ـ على هؤلاء الحاسدين ردا حاسما فقال : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) أى : الله ـ سبحانه ـ أعلم منهم ومن كل أحد بالموضع الصالح للرسالة فيضعها فيه فهو ـ سبحانه ـ يختار لها بحكمته وعلمه من يستحقها وينهض بها. ويهب نفسه لها ، وينسى في سبيلها ذاته.
قال الإمام الرازي : وقوله ـ تعالى ـ (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) أى : أن للرسالة موضوعا مخصوصا لا يصلح وضعها إلا فيه ، فمن كان مخصوصا موصوفا بتلك الصفات لأجلها يصلح وضع الرسالة فيه كان رسولا وإلا فلا ، والعالم بتلك الصفات ليس إلا الله ـ تعالى ـ ثم قال : وفي هذه الجملة الكريمة تنبيه على دقيقة أخرى وهي أن أقل ما لا بد منه في حصول النبوة والرسالة البراءة عن المكر والغدر والغل والحسد ، وقوله (لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) عين المكر والغدر والغل والحسد ، فكيف يعقل حصول النبوة والرسالة مع هذه الصفات» (٢).
وهذه الجملة حجة لأهل الحق على أن الرسالة هبة من الله يختص بها من يشاء من عباده ، ولا ينالها أحد بكسبه ولا بذكائه ولا بنسبه.
ولذا قال الإمام الآلوسى : وجملة (اللهُ أَعْلَمُ) ... إلخ. استئناف بيانى ، والمعنى : أن
__________________
(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٨٦.
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ١٤٢.