من قرى الرسل من قبلك رؤساء من المجرمين مثلهم ليمكروا فيها ، ويتجبروا على الناس ، ثم كانت العاقبة للرسل ، فلا تبتئس يا محمد مما يصيبك من زعماء مكة فتلك طبيعة الحياة في كل عصر ، أن يكون زعماء الأمم وكبراؤها أشد الناس عداوة للرسل والمصلحين.
قال الجمل : وقوله : (أَكابِرَ) مفعول أول لجعل ، وأكابر مضاف ومجرميها مضاف إليه ، و (فِي كُلِّ قَرْيَةٍ) المفعول الثاني لجعل ، ووجب تقديمه ليصح عود الضمير عليه ، فهو على حد قوله :
كذا إذا عاد عليه مضمر |
|
مما به عنه مبينا يخبر |
هذا أحسن الأعاريب (١) وهناك أوجه أخرى للأعراب لا تخلو من مقال.
وخص الأكابر بالمكر ، لأنهم هم الحاملون لغيرهم على الضلال ، وهم الذين يتبعهم الضعفاء في كفرهم وفجورهم.
قال ابن كثير : والمراد بالمكر هنا دعاؤهم غيرهم إلى الضلالة بزخرف من المقال والفعال كقوله ـ تعالى ـ إخبارا عن قوم نوح (وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً) ، وكقوله : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ* قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ* وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً) ... الآية (٢). وقوله ـ سبحانه ـ (وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ).
أى وما يمكر أولئك الأكابر المجرمون الذين يعادون الرسل والمصلحين في كل وقت إلا بأنفسهم ، حيث يعود ضرره عليهم وحدهم في الدنيا والآخرة ولكنهم لانطماس بصيرتهم ، لا يشعرون بأن مكرهم سيعود عليهم ضرره ، بل يتوهمون أنهم سينجون في مكرهم بغيرهم من الأنبياء والمصلحين.
فالجملة الكريمة بيان لسنة من سنن الله في خلقه ، وهي أن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله ، وفي ذلك تسلية للنبي صلىاللهعليهوسلم عما يصيبه منهم ، وبشارة له ، ولأصحابه بالنصر عليهم ، ووعيد لأولئك الماكرين بسوء المصير.
وجملة (وَما يَشْعُرُونَ) حال من ضمير يمكرون ، وهي تسجل عليهم بلاهتهم وجهالتهم حيث فقدوا الشعور بما من شأنه أن يعترف به كل عاقل.
__________________
(١) حاشية الجمل ج ٢ ص ٨٦.
(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٧٣.