خلقك فسواك فعدلك (حَكِيمٌ) في كل ما يفعل من رفع هذا وخفض ذاك ، (عَلِيمٌ) كل العلم بحال خلقه وسياسة عباده.
قال الإمام الرازي : واعلم أن هذه الآية من أدل الدلائل على أن كمال السعادة في الصفات الروحانية لا في الصفات الجسمانية ، والدليل على ذلك أن الله ـ تعالى ـ قال (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) ثم قال بعده (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) وذلك يدل على أن الموجب لحصول هذه الرفعة هو إيتاء تلك الحجة وهذا يقتضى أن وقوف النفس على حقيقة تلك الحجة واطلاعها على إشراقها اقتضى ارتفاع الروح من حضيض العالم الجسماني إلى أعالى العالم الروحاني ، وذلك يدل على أنه لا رفعة ولا سعادة إلا في الروحانيات» (١).
وقوله : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا) أى : ووهبنا لإبراهيم فضلا منا وكرما وعوضا عن قومه لما اعتزلهم ؛ إسحاق وهو ولده من زوجه سارة ، ويعقوب وهو ابن إسحاق لتقر عينه ببقاء عقبه ؛ إذ في رؤية أبناء الأبناء سرور للنفس ، وراحة للفؤاد.
وقوله (كُلًّا هَدَيْنا) أى : كلا من إسحاق ويعقوب هديناه الهداية الكبرى بلحوقهما بدرجة أبيهما في النبوة.
ولفظ (كُلًّا) مفعول لما بعده وقدم لإفادة اختصاص كل منهما بالهداية على سبيل الاستقلال والتنويه بشأنهما.
وقوله : (وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ) أى : وهدينا نوحا من قبل إبراهيم إلى مثل ما هدينا إليه إبراهيم وذريته من النبوة والحكمة.
وهذا لون آخر من تشريف إبراهيم حيث أنه من نسل نوح الذي وصفه الله بالهداية ، ولا شك أن شرف الآباء يسرى على الأبناء.
وقال ابن كثير ، «وكل منهما له خصوصية عظيمة. أما نوح فإن الله لما أغرق أهل الأرض إلا من آمن به وهم الذين صحبوه في السفينة ، جعل الله ذريته هم الباقين ، فالناس كلهم من ذريته ، وأما الخليل إبراهيم فلم يبعث الله بعده نبيا إلا من ذريته كما قال ـ تعالى ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) (٢).
ثم قال ـ تعالى ـ (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ* وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ).
__________________
(١) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٨٣.
(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٠٤.