وثانيها : أنه ـ تعالى ـ خصه بالرفعة والاتصال إلى الدرجات العالية وهي قوله (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ).
وثالثها : أنه جعله عزيزا في الدنيا وذلك لأنه ـ تعالى ـ جعل أشرف الناس وهم الأنبياء والرسل من نسله وذريته وأبقى هذه الكرامة في نسله إلى يوم القيامة ، لأن من أعظم أنواع السرور علم المرء بأنه يكون من عقبه الأنبياء والملوك (١).
والإشارة في قوله ـ تعالى ـ (وَتِلْكَ حُجَّتُنا) إلى جميع ما تكلم به إبراهيم في مجادلة قومه في شأن وحدانية الله وبطلان الشرك.
وأضاف ـ سبحانه ـ الحجة إليه مع ذكر اللفظ الدال على العظمة وهو «نا» تنويها بشأنها وتفخيما لأمرها ، والمراد بالحجة جنسها لا فرد من أفرادها.
أى : وتلك الحجة التي لا يمكن نقضها أو مغالبتها في إثبات الحق وتزييف الباطل أعطيناها إبراهيم ليكون مستعليا بها على قومه ، قاطعا لألسنتهم عن المجادلة والمخاصمة.
وجملة (آتَيْناها) في محل نصب على الحال والعامل فيها معنى الإشارة.
وقوله (عَلى قَوْمِهِ) متعلق «بحجتنا» إن جعل خبرا لتلك ، وبمحذوف إن جعل بدله. أى : آتيناها حجة ودليلا على قومه الكثيرين لتكون الغلبة عليهم.
وقوله (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) أى نرفع من شئنا من عبادنا درجات عالية من العلم والحكمة.
والدرجات في الأصل تطلق على مراقى السلم. والمراد بها هنا المراتب المعنوية في الخير على سبيل التمثيل ، فقد شبهت حالة المفضل على غيره بحال المرتقى في سلم إذا ارتفع من درجة إلى درجة.
والجملة مستأنفة على سبيل التقرير لما قبلها ، وقيل هي حال من فاعل آتينا أى حال كوننا رافعين.
ومفعول المشيئة محذوف. أى : من نشاء رفعه على حسب ما تقتضيه حكمتنا. وقد دل قوله (مَنْ نَشاءُ) على أن هذا التكريم لا يكون لكل أحد لأنه لو كان حاصلا لكل الناس لم يحصل الرفع ولا التفضيل.
وقوله ـ تعالى ـ (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) تذييل مقرر لمضمون ما قبله ، أى : إن ربك الذي
__________________
(١) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٨٢.