تتم الشمس دورتها في سنة ويتم القمر دورته في شهر ، وبذلك تنتظم المصالح المتعلقة بالفصول الأربعة وغيرها ، قال ـ تعالى ـ (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) (١).
وقوله (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أى : ذلك الجعل والتسيير البديع الشأن تقدير العزيز ، أى : الغالب القاهر الذي لا يتعاصاه شيء من الأشياء التي من جملتها تسييرهما على الوجه المخصوص ، العليم بكل شيء فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
قال الإمام الرازي عند تفسيره لهذه الآية الكريمة ما ملخصه :
«اعلم أن هذا نوع آخر من دلائل وجود الصانع وعلمه وقدرته وحكمته فالنوع المتقدم ـ أى قوله (إِنَّ اللهَ فالِقُ) ... إلخ ـ كان مأخوذا من دلالة أحوال النبات والحيوان ، والنوع المذكور في هذه الآية مأخوذ من الأحوال الفلكية ، وذلك لأن فلق ظلمة الليل بنور الصبح أعظم في كمال القدرة من فلق الحب والنوى بالنبات والشجر ولأن من المعلوم بالضرورة أن الأحوال الفلكية أعظم في القلوب وأكثر وقعا من الأحوال الأرضية».
وبعد أن ساق ـ رحمهالله ـ الأدلة على ذلك قال : والعزيز إشارة إلى كمال قدرته ، والعليم إشارة إلى كمال علمه ، ومعناه : أن تقدير الأفلاك بصفاتها المخصوصة ، وهيآتها المحدودة ، وحركاتها المقدرة بالمقادير المخصوصة في البطء والسرعة ، لا يمكن تحصيله إلا بقدرة كاملة متعلقة بجميع الممكنات ، وعلم نافذ في جميع المعلومات من الكليات والجزئيات ، وذلك تصريح بأن حصول هذه الأحوال والصفات ليس بالطبع والخاصة ، وإنما هو بتخصيص الفاعل المختار والله أعلم» (٢).
ثم ساق ـ سبحانه ـ نوعا ثالثا من الدلائل على كمال قدرته ورحمته وحكمته فقال ـ تعالى ـ (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أى : وهو ـ سبحانه ـ وحده الذي أنشأ لكم هذه الكواكب النيرة لتهتدوا بها إلى الطرق والمسالك خلال سيركم في ظلمات الليل بالبر والبحر حيث لا ترون شمسا ولا قمرا.
وجملة (لِتَهْتَدُوا بِها) بدل اشتمال من ضمير (لَكُمُ) بإعادة العامل ، فكأنه قيل : جعل النجوم لاهتدائكم.
(قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أى : قد وضحنا وبينا الآيات الدالة على قدرته ـ تعالى ـ
__________________
(١) سورة يونس : الآية ٥.
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٩٩.