وحكمة إفراد المهتدى للإشارة إلى أن الحق واحد لا يتعدد ولا يتنوع ، وحكمة جمع الثاني وهو قوله (الْخاسِرُونَ) للإشارة إلى تعدد أنواع الضلال ، وتنوع وسائله وأساليبه.
وقوله (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِ) كلام مستأنف مقرر لمضمون ما قبله ومفصل له. و «الذرء» الخلق. يقال : ذرأ الله خلقه يذرؤهم ذرءا ، أى : خلقهم. واللام في (لِجَهَنَّمَ) للعاقبة والصيرورة.
أى : ولقد خلقنا لدخول جهنم والتعذيب بها كثيرا من الجن والانس وهم الكفار المعرضون عن الآيات وتدبرها ، الذين علم الله منهم أزلا اختيارهم الكفر فشاءه منهم وخلقه فيهم وجعل مصيرهم النار لذلك.
ثم بين ـ سبحانه ـ صفاتهم التي أدت بهم إلى هذا المصير السيئ فقال. (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها) أى : لا يفقهون بها الآيات الهادية إلى الكمالات مع أن دلائل الإيمان مبثوثة في ثنايا الكون تدركها القلوب المتفتحة ، والبصائر المستنيرة.
وجملة (لَهُمْ قُلُوبٌ) في محل نصب صفة أخرى لقوله (كَثِيراً) وجملة (لا يَفْقَهُونَ بِها) في محل رفع صفة لقلوب.
وقوله (وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها) أى : لهم أعين لا يبصرون بها ما في هذا الكون من براهين تشهد بوحدانية الله ، مع أنها معروضة للأبصار مكشوفة للأنظار ، فهم كما قال ـ تعالى ـ ، (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) فهم لهم أعين ترى وتبصر ولكن بدون تأمل أو اعتبار ، فكأن وجودها وعدمه سواء.
وقوله (وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها) أى : لا يسمعون بها الآيات والمواعظ سماع تدبر واتعاظ ، أى أنهم لا ينتفعون بشيء من هذه الجوارح التي جعلها الله سببا للهداية.
قال صاحب الكشاف : «هم المطبوع على قلوبهم الذين علم الله أنه لا لطف لهم : وجعلهم في أنهم لا يلقون أذهانهم إلى معرفة الحق ، ولا ينظرون بأعينهم إلى ما خلق الله نظر اعتبار ، ولا يسمعون ما يتلى عليهم من آيات سماع تدبر كأنهم عدموا فهم القلوب ، وإبصار العيون واستماع الآذان ، وجعلهم ـ لإعراقهم في الكفر وشدة شكائمهم فيه ، وأنه لا يأتى منهم إلا أفعال أهل النار ـ مخلوقين للنار ، دلالة على توغلهم في الموبقات ، وتوغلهم فيما يؤهلهم لدخول النار» (١).
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ١٧٩.