ثم بين ـ سبحانه ـ بعض مظاهر نعمه على خليله إبراهيم فقال ـ تعالى ـ (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ).
أى : وكما أرينا إبراهيم الحق في خلاف ما عليه أبوه وقومه من الشرك ، نريه ـ أيضا ـ مظاهر ربوبيتنا ، ومالكيتنا للسموات والأرض ، ونطلعه على حقائقها. ليزداد إيمانا على إيمانه وليكون من العالمين علما كاملا لا يقبل الشك بأنه على الحق وأن مخالفيه على الباطل.
والرؤية هنا المقصود بها الانكشاف والمعرفة. فتشمل المبصرات والمعقولات التي يستدل بها على الحق.
وإنما قال (نُرِي إِبْراهِيمَ) بصيغة المضارع ، مع أن الظاهر أن يقول «أريناه» لاستحضار صورة الحال الماضية التي كانت تتجدد وتتكرر بتجدد رؤية آياته ـ تعالى ـ في ذلك الملكوت العظيم.
والملكوت : مصدر كالرغبوت والرحموت والجبروت ، وزيدت فيه الواو والتاء للمبالغة في الصفة ، والمراد به الملك العظيم وهو مختص بملكه ـ تعالى ـ كما قال الراغب في مفرداته.
ثم بين ـ سبحانه ـ ثمار تلك الإراءة التي أكرم بها نبيه إبراهيم فقال : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي).
(جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) : أى ستره بظلامه وتغشاه بظلمته ، وأصل الجن : الستر عن الحاسة.
يقال : جنه الليل وجن عليه يجن جنا وجنونا ، ومنه الجن والجنة ـ بالكسر ـ والجنة ـ بالفتح ـ وهي البستان الذي يستر بأشجاره الأرض.
والمعنى : فلما ستر الليل بظلامه إبراهيم رأى كوكبا قال هذا ربي ، قال ذلك على سبيل الفرض وإرخاء العنان ، مجاراة مع عباد الأصنام والكواكب ليكر عليه بالإبطال ، ويثبت أن الرب لا يجوز عليه التغيير والانتقال.
قال صاحب الكشاف : «كان أبوه وقومه يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب فأراد أن ينبههم على الخطأ في دينهم ، وأن يرشدهم إلى طريق النظر والاستدلال. ويعرفهم أن النظر الصحيح مؤد إلى أن شيئا منها لا يصح أن يكون إلها. لقيام دليل الحدوث فيها ، وأن وراءها محدثا أحدثها ، وصانعا صنعها ، ومدبرا دبر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها وسائر أحوالها. وقول إبراهيم (هذا رَبِّي) قول من ينصف خصمه مع علمه بأنه مبطل ، فيحكى قوله كما روى غير متعصب لمذهبه ، لأن ذلك أدعى إلى الحق وأنجى من الشغب ، ثم يكر عليه بعد حكايته فيبطله بالحجة (١).
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٧٦.