وبعد أن أبطل ـ سبحانه ـ بالدليل قول من قال «ما أنزل الله على بشر من شيء» أتبعه ببيان أن هذا القرآن من عند الله وأنه مصدق للكتب السماوية السابقة ومهيمن عليها فقال ـ تعالى ـ :
(وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ).
والمعنى : وهذا القرآن كتاب أنزلناه على قلبك يا محمد وهذا الكتاب من صفاته أنه مبارك أى : كثير الفوائد لاشتماله على منافع الدين والدنيا.
والمبارك اسم مفعول من باركه وبارك فيه ، إذا جعل له البركة ، ومعناها كثرة الخير ونماؤه.
وقدم هنا وصفه بالإنزال على وصفه بالبركة بخلاف قوله «وهذا ذكر مبارك أنزلناه» لأن الأهم هنا وصفه بالإنزال ، إذ جاء عقيب إنكارهم أن ينزل الله على بشر من شيء بخلافه هناك.
ووقعت الصفة الأولى جملة فعلية لأن الإنزال يتجدد وقتا فوقتا ، والثانية اسمية لأن الاسم يدل على الثبوت والاستقرار وهو مقصود هنا أى : أن بركته ثابتة مستقرة.
قال الإمام الرازي : العلوم إما نظرية وإما عملية ، أما العلوم النظرية فأشرفها وأكملها معرفة ذات الله وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه ، ولا ترى في هذه العلوم أكمل ولا أشرف مما تجده في هذا الكتاب ، وأما العلوم العملية فالمطلوب إما أعمال الجوارح ، وإما أعمال القلب ، وهو المسمى بطهارة الأخلاق وتزكية النفس ، ولا تجد هذين العلمين مثل ما تجده في هذا الكتاب ، ثم قد جرت سنة الله بأن الباحث فيه والمتمسك به يحصل له عز الدنيا وسعادة الآخرة» (١).
وقوله (مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أى أن هذا القرآن موافق ومؤيد للكتب التي قبله في إثبات التوحيد ونفى الشرك ، وفي سائر أصول الشرائع التي لا تنسخ.
وقوله : (وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) أى : ولتنذر بهذا الكتاب أم القرى أى مكة ، ومن حولها من أطراف الأرض شرقا وغربا لعموم بعثته صلىاللهعليهوسلم قال ـ تعالى ـ (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) وقال ـ تعالى ـ (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) ، وسميت مكة بأم القرى لأنها مكان أول بيت وضع للناس ، ولأنها قبلة أهل القرى كلها ومحجهم ، ولأنها أعظم القرى شأنا وغيرها كالتبع لها كما يتبع الفرع الأصل ، وفي ذكرها بهذا الاسم المنبئ عما ذكر إشعار بأن إنذار أهلها مستتبع لإنذار أهل الأرض كافة.
__________________
(١) تفسير الرازي ج ٤ ص ٩٩.