مشركو مكة ، وإنما ألزمهم الله بإنزال التوراة لأنهم كانوا يعرفون ذلك ولا ينكرون أن الله قد أنزلها على موسى.
قال ابن جرير : وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك قول من قال : عنى بذلك (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) مشركو قريش. وذلك أن ذلك في سياق الخبر عنهم. فأن يكون ذلك أيضا خبرا عنهم أشبه من أن يكون خبرا عن اليهود ولما يجر لهم ذكر. وليس ذلك مما تدين به اليهود ، بل المعروف من دين اليهود الإقرار بصحف إبراهيم وموسى ..) (١).
وقد تابع ابن كثير رأى ابن جرير وقال : وهذا الرأى هو الأصح ، لأن اليهود لا ينكرون إنزال الكتب من السماء ، وأما كفار قريش فكانوا ينكرون رسالة النبي صلىاللهعليهوسلم لأنه من البشر كما قال ـ تعالى ـ (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) وكذا قالوا هنا (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) (٢).
الثاني : أن هذه الآية مدنية النزول ، وكون سورة الأنعام مكية لا يمنع من وجود بعض آيات منها مدنية كما نص عليه كثير من العلماء.
ومما يؤيد كون هذه الآية مدنية ما ورد من آثار في أسباب نزولها ، ومن هذه الآثار ما أخرجه ابن جرير من طريق ابن أبى طلحة عن ابن عباس قال : قالت اليهود : والله ما أنزل الله من السماء كتابا) فنزل قوله ـ تعالى ـ (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) .. إلخ وأخرج ابن أبى حاتم عن سعيد بن جبير ـ مرسلا ـ قال : جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف فخاصم النبي صلىاللهعليهوسلم فقال له النبي : «أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين» ـ وكان حبرا سمينا ـ فغضب وقال : (هل أنزل الله على بشر من شيء) فقال له أصحابه : ويحك ولا على موسى فأنزل الله (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) الآية (٣).
والذي نراه أن الآية الكريمة تصلح للرد على الفريقين : فريق المشركين وفريق اليهود إلا أن سياقها يجعلنا نرجح أن الخطاب فيها موجه بالأصالة إلى اليهود وإلى غيرهم بالتبع ، لأنهم هم الذين جعلوا التوراة قراطيس أى أوراقا مفرقة ليظهروا منها ما يناسب أهواءهم وليخفوا منها ما فيه شهادة بصدق النبي صلىاللهعليهوسلم ولأن هناك آثارا متعددة تثبت أنها نزلت في شأنهم.
وتوجيه الخطاب إلى اليهود لا يتنافى مع كونها مكية ، لأنه ليس بلازم أن يكون كل قرآن مكي خطابا لغير اليهود.
__________________
(١) تفسير ابن جرير ج ٧ ص ١٧٨.
(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٥٦.
(٣) لباب النقول في أسباب النزول للسيوطي هامش الجلالين ص ٢٢٢.