بإثبات قضية جزئية بديهية التسليم فقال ـ تعالى ـ : (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ) أى : قل يا محمد لهؤلاء الزاعمين بأن الله ما أنزل على بشر شيئا من الأشياء : قل لهم من الذي أنزل التوراة وهو الكتاب الذي جاء به موسى (نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ) أى : ضياء من ظلمة الجهالة وهداية تعصم من الأباطيل والضلالة.
وكلمة (نُوراً) حال من الضمير في به أو من الكتاب.
ثم بين ـ سبحانه ـ ما فعله الجاحدون بكتبه من تحريف وتغيير فقال : (تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً).
القراطيس : جمع قرطاس وهو ما يكتب فيه من ورق ونحوه.
أى : تجعلون هذا الكتاب الذي أنزله الله نورا وهداية للناس أوراقا مكتوبة مفرقة لتتمكنوا من إظهار ما تريدون إظهاره منها ، ومن إخفاء الكثير منها على حسب ما تمليه عليكم نفوسكم السقيمة وشهواتكم الأثيمة.
فالمراد من هذه الجملة الكريمة ذم المحرفين لكتب الله ، وتوبيخهم على هذا الفعل الشنيع ، الذي قصدوا من ورائه الطعن في نبوة النبي صلىاللهعليهوسلم والتوصل إلى ما يبغونه من مطامع وأهواء.
وقوله (وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ) أى : وعلمتم على لسان محمد صلىاللهعليهوسلم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم من المعارف التي لا يرتاب عاقل في أنها تنزيل رباني.
وقوله (قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ).
أى : قل أيها الرسول لهؤلاء الجاحدين : الله ـ تعالى ـ هو الذي أنزل الكتاب على موسى ، ثم بعد هذا القول الفصل ذرهم في باطلهم الذي يخوضون فيه يلعبون ، وفي غيهم يعمهون حتى يأتيهم من الله اليقين.
وفي أمره صلىاللهعليهوسلم بأن يجيب عنهم ، إشعار بأن الجواب متعين لا يمكن غيره ، وتنبيهه على أنهم بهتوا بحيث إنهم لا يقدرون على الجواب.
وكان العطف بثم في قوله (ثُمَّ ذَرْهُمْ) للدلالة على الترتيب الرتبى أى : أنهم لا تنجع فيهم الحجج والأدلة فتركهم وخوضهم بعد التبليغ هو الأولى ، وإنما كان الاحتجاج عليهم لتبكيتهم وقطع معاذيرهم.
هذا ، وللمفسرين لهذه الآية قولان :
الأول : أنها مكية النزول تبعا للسورة ، وأن الذين قالوا (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ)