وبذلك نرى أن الآية الأولى التي ورد فيها النداء الأول قد ذكرت بنى آدم بجانب من نعم الله عليهم ، ثم جاءت هذه الآية مصدرة بنداء آخر حذرتهم منه من وسوسة الشيطان ومداخله حتى لا يقعوا فيما وقع فيه أبوهم آدم من قبل.
ثم حكى القرآن بعض القبائح التي كان يفعلها المشركون ، ورد على أكاذيبهم بما يدحضها فقال :
(وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٢٨)
الفاحشة : هي كل فعل قبيح يتنافى مع تعاليم الشريعة مثل الإشراك بالله ، والطواف بالبيت الحرام بدون لباس يستر العورة.
قال الإمام ابن كثير : «كانت العرب ـ ما عدا قريشا ـ لا يطوفون بالبيت الحرام في ثيابهم التي لبسوها ، يتأولون في ذلك أنهم لا يطوفون في ثياب عصوا الله فيها ، وكانت قريش ـ وهم الحمس (١) ـ يطوفون في ثيابهم ، ومن أعاره أحمسى ثوبا طاف فيه ، ومن معه ثوب جديد طاف فيه ثم يلقيه فلا يتملكه أحد ، ومن لم يجد ثوبا جديدا ولا أعاره أحمسى ثوبا طاف عريانا ، وربما كانت المرأة تطوف عريانة ، فتجعل على فرجها شيئا ليستره بعض الستر ، وأكثر ما كان النساء يطفن عراة ليلا ، وكان هذا شيئا قد ابتدعوه من تلقاء أنفسهم واتبعوا فيه آباءهم ، ويعتقدون أن فعل آبائهم مستند إلى أمر من الله فأنكر الله عليهم ذلك وقال : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها) (٢).
فالآية الكريمة تحكى عن هؤلاء المشركين أنهم كانوا يرتكبون القبائح التي نهى الله عنها كالطواف بالكعبة عرايا ، وكالإشراك بالله ، ثم بعد ذلك يحتجون بأنهم قد وجدوا آباءهم كذلك يفعلون ، وبأن الله قد أمرهم بذلك ، ولا شك أن احتجاجهم هذا من الأكاذيب التي ما أنزل الله بها من سلطان ، ولذا عاجلهم القرآن بالرد المفحم ، فقال : (قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ).
__________________
(١) سمو بالحمس لأنهم تحمسوا في دينهم أى : تشددوا. والحماسة : الشجاعة.
(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٠٨.