وهنا يحكم الله فيهم بحكمه العادل فيقول : (قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) أى : إذا كان الأمر كما ذكرتم وشهدتم على أنفسكم ، فانغمسوا في العذاب ذائقين لآلامه وأهواله بسبب كفركم بآيات الله ، وإنكاركم لهذا اليوم العصيب.
والذوق هنا كناية عن الإحساس الشديد بالعذاب بعد أن وقعوا فيه.
ثم صور ـ سبحانه ـ عاقبتهم السيئة ، وخسارتهم التي ليس بعدها خسارة فقال : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ).
أى : أن أولئك الكفار الذين أنكروا البعث والحساب قد خسروا أعز شيء في هذه الحياة ، ومن مظاهر ذلك أنهم خسروا الرضا الذي سيناله المؤمنون من ربهم ، وخسروا العزاء الروحي الذي يغرس في قلب المؤمن الطمأنينة والصبر عند البلاء ، لأن المؤمن يعتقد أن ما عند الله خير وأبقى ، بخلاف الكافر فإن الدنيا منتهى آماله.
وإن هؤلاء الخاسرين سيستمرون في تكذيبهم بالحق وإعراضهم عنه (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا : يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها).
أى : حتى إذا جاءتهم الساعة مباغته مفاجئة وهم في طغيانهم يعمهون ، اعتراهم الهم ، وحل بهم البلاء وقالوا : بعد أن سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا يا حسرتنا أقبلى فهذا أوانك ، فإننا لم نستعد لهذا اليوم ، بل أهملناه ولم نلتفت إليه. وعلى ذلك يكون المراد بالساعة يوم القيامة وما فيه من حساب.
وقيل : المراد بالساعة وقت مقدمات الموت ، فالكلام على حذف المضاف ، أى : جاءتهم مقدمات الساعة وهي الموت وما فيه من الأهوال. فلما كان الموت من مبادئ الساعة سمى باسمها ، ولذا قال صلىاللهعليهوسلم «من مات فقد قامت قيامته».
وسميت القيامة ساعة لسرعة الحساب فيها ، ولأنها تحمل أشد الأهوال ولأنها فاصلة بين نوعين من الحياة : فانية وأخرى باقية.
وفي قوله ـ تعالى ـ (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) إشارة إلى أنها تفاجئهم بأهوالها من غير أن يكونوا مستعدين لها أو متوقعين لحدوثها ، أما المؤمنين ـ فإنهم رغم عدم علمهم بمجيئها ـ فإنهم يكونون في حالة استعداد لها بالإيمان والعمل الصالح.
والبغت والبغتة مفاجأة الشيء بسرعة من غير إعداد له ، وكلمة (بَغْتَةً) يصح أن تكون مصدرا في موضع الحال من فاعل جاءتهم أى : جاءتهم مباغتة ، ويصح أن تكون مفعولا مطلقا لفعل محذوف من لفظها أى : تبغتهم بغتة ، والحسرة : شدة الغم والندم على ما فات وانقضى.