وإلى هنا تكون الآيات الكريمة ـ بعد أن دمغت بنى إسرائيل بما يستحقونه من تقريع ووعيد ـ قد فتحت أمامهم وأمام غيرهم باب التوبة ليفيئوا إلى نور الحق ، وليتركوا ما انغمسوا فيه من ضلالات وجهالات.
ثم بين ـ سبحانه ـ ما فعله موسى بعد أن هدأ غضبه فقال :
(وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) (١٥٤)
السكوت في أصل اللغة ترك الكلام ، والتعبير القرآنى هنا يشخص الغضب كأنما هو كائن حي يدفع موسى ويحركه ، ثم تركه بعد ذلك. ففي الكلام استعارة مكنية حيث شبه الغضب بشخص آمر ، ناه. وأثبت له السكوت على طريق التخييل.
قال صاحب الكشاف : قوله : (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ) هذا مثل. كأن الغضب كان يغريه على ما فعل ويقول له : قل لقومك كذا ، وألق الألواح ، وجر برأس أخيك إليك ، فترك النطق بذلك ، وقطع الإغراء. ولم يستحسن هذه الكلمة ولم يستفصحها كل ذي طبع سليم وذوق صحيح إلا لذلك ولأنه من قبل شعب البلاغة. وإلا ، فما لقراءة معاوية بن قرة «ولما سكن عن موسى الغضب» لا تجد النفس عندها شيئا من تلك الهزة ، وطرفا من تلك الروعة» (١).
والمعنى : وحين سكت غضب موسى بسبب اعتذار أخيه وتوبة قومه أخذ الألواح التي كان قد ألقاها.
وظاهر الآية يفيد أن الألواح لم تتكسر ، ولم يرفع من التوراة شيء ، وأنه أخذها بعينها.
وقوله (وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) أى : أخذ موسى الألواح التي سبق له أن ألقاها ، وفيما نسخ في هذه الألواح أى : كتب هداية عظيمة إلى طريق الحق ، ورحمة واسعة للذين هم لربهم يرهبون. أى : يخافون أشد الخوف من خالقهم ـ عزوجل ـ.
والنسخ : الكتابة ، ونسخة هنا بمعنى منسوخة أى. مكتوبة ، والمراد وفي منسوخها ومكتوبها هدى ورحمة.
و (هُمْ) مبتدأ. ويرهبون خبره ، والجملة صلة الموصول ، واللام في (لِلَّذِينَ) متعلقة
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ١٦٣.