ظلمهم لأنفسهم كان يتكرر منهم ، لأنك لا تقول في ذم إنسان «كان يسيء إلى الناس» إلا إذا كانت الإساءة تصدر منه المرة تلو الأخرى.
قال ابن جرير عند تفسيره لهذه الجملة الكريمة ما ملخصه : «هذا من الذي استغنى بدلالة ظاهره على ما ترك منه وذلك أن معنى الكلام : كلوا من طيبات ما رزقناكم فخالفوا ما أمرناهم به ، وعصوا ربهم ، ثم رسولنا إليهم وما ظلمونا» فاكتفى بما ظهر عما ترك. وقوله : (وَما ظَلَمُونا) أى : ما ظلمونا بفعلهم ذلك ومعصيتهم ، وما وضعوا فعلهم ذلك وعصيانهم إيانا موضع مضرة علينا ومنقصة لنا ، ولكنهم وضعوه من أنفسهم موضع مضرة عليها ومنقصة لها. فان الله ـ تعالى ـ لا تضره معصية عاص ، ولا يتحيف خزائنه ظلم ظالم ولا تنفعه طاعة مطيع ، ولا يزيد في ملكه عدل عادل ، لنفسه يظلم الظالم ، وحظها يبخس العاصي ، وإياها ينفع المطيع ، وحظها يصيب العادل» (١).
وقوله ـ تعالى ـ (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) ... إلخ. تذكير لهم بصفة جليلة مكنوا منها فما أحسنوا قبولها ، وما رعوها حق رعايتها ، وهي نعمة تمكينهم من دخول بيت المقدس ونكولهم عن ذلك.
قال الآلوسى : وقوله (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ) معمول لفعل محذوف تقديره : اذكر. وإيراد الفعل هنا مبينا للمفعول جريا على سنن الكبرياء «مع الإيذان بأن الفاعل غنى عن التصريح. أى : أذكر لهم وقت قولنا لأسلافهم» (٢).
والقرية هي البلدة المشتملة على مساكن ، والمراد بها هنا بيت المقدس ـ على الراجح ـ وقيل المراد بها أريحاء.
والحطة : كجلسة : اسم للهيئة ، من الحط بمعنى الوضع والإنزال ، وأصله إنزال الشيء من علو. يقال : استحطه وزره : سأله أن يحطه عنه وينزله.
وهي خبر مبتدأ محذوف أى : مسألتنا حطة ، والأصل فيها النصب بمعنى : حط عنا ذنوبنا حطة ، وإنما رفعت لتعطى معنى الثبات.
والمعنى : واذكروا أيها المعاصرون للعهد النبوي من بنى إسرائيل وقت أن قيل لأسلافكم اسكنوا قرية بيت المقدس بعد خروجهم من التيه ، وقيل لهم كذلك كلوا من خيراتها أكلا واسعا ، واسألوا الله أن يحط عنكم ذنوبكم ، وادخلوا من بابها خاضعين خاشعين شكرا لله على
__________________
(١) تفسير ابن جرير ج ١ ص ٢٣٧.
(٢) تفسير الآلوسى ج ٩ ص ٨٨.