وسع علم ربي كل شيء ، ولكن عدل به عن هذا النسق ، وأسند الفعل فيه إلى الله لا إلى علمه ، وجعل لفظ العلم تمييزا لا فاعلا ليكون الوسع والإحاطة والشمول لله ، فيخلع التعبير ظلا أشمل وأفخم وأعمق وقعا في النفس.
وقوله (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) أى تعرضون أيها الغافلون عن التأمل والتذكير بعد أن أوضحت لكم بما لا يقبل مجالا للشك أن الله وحده هو المستحق للعبادة وأن هذه المعبودات التي سواه لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا.
فالاستفهام للإنكار والتوبيخ لعدم تذكرهم مع وضوح الدلائل.
وفي إيراد التذكر دون التفكر ونحوه إشارة إلى أن أمر آلهتهم مركوز في العقول ولا يتوقف إلا على التذكير.
ثم حكى القرآن عن إبراهيم ـ عليهالسلام ـ أنه بعد أن صارح قومه بأنه لا يخشى آلهتهم ، أخذ في التهكم بهم والتعجب من شأنهم لأنهم يخوفونه مما لا يخيف فقال : (وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً).
أى : كيف ساغ لكم أن تظنوا أنى أخاف معبوداتكم الباطلة وهي مأمونة الخوف لأنها لا تضر ولا تنفع ، وأنتم لا تخافون إشراككم بالله خالقكم دون أن يكون معكم على هذا الإشراك حجة أو برهان من العقل أو النقل.
فالاستفهام للإنكار التعجبي من إنكارهم عليه الأمن في موضع الأمن ، وعدم إنكارهم على أنفسهم الأمن في موضع أعظم المخوفات وأهوالها وهو إشراكهم بالله.
قال بعض العلماء : وجملة (وَكَيْفَ أَخافُ) .. إلخ. معطوفة على جملة (وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ) ليبين لهم أن عدم خوفه من آلهتهم أقل عجبا من عدم خوفهم من الله ، وهذا يؤذن بأن قومه كانوا يعرفون الله وأنهم أشركوا معه في الإلهية غيره فلذلك احتج عليهم بأنهم أشركوا بربهم المعترف به دون أن ينزل عليهم سلطانا بذلك (١).
وقال الآلوسى : وقوله (وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ) استئناف ـ كما قال شيخ الإسلام ـ مسوق لنفى الخوف عنه ـ عليهالسلام ـ بحسب زعم الكفر بالطريق الإلزامى بعد نفيه عنه بحسب الواقع ونفس الأمر ، وفي توجيه الإنكار إلى كيفية الخوف من المبالغة ما ليس في توجيهه إلى نفسه بأن يقال : أأخاف لما أن كل موجود لا يخلو عن كيفية ، فإذا انتفت جميع كيفياته فقد انتفى من جميع الجهات بالطريق البرهاني» (٢).
__________________
(١) تفسير التحرير والتنوير للشيخ محمد عاشور ج ٧ ص ٣٣٠.
(٢) تفسير الآلوسى ج ٧ ص ٢٠٦.