والحساب يوم القيامة ، لأن النشأة الثانية ـ كما يقول القرطبي ـ منزلتها بعد الأولى كمنزلة اليقظة بعد النوم في أن من قدر على أحدهما فهو قادر على الأخرى.
هذا ، ويرى جمهور المفسرين أن ظاهر الخطاب في الآية للمؤمنين والكافرين ، ولكن الزمخشري خالف في ذلك فجعلها خطابا للكافرين فقال : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) الخطاب للكفرة ، أى : أنتم منسدحون الليل كله كالجيف ـ أى مسطحون على القفا ـ (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) ما كسبتم من الآثام فيه (ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ) من القبور في شأن ذلك الذي قطعتم به أعماركم من النوم بالليل وكسب الآثام بالنهار (لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى) وهو الأجل الذي سماه وضربه لبعث الموتى وجزائهم على أعمالهم (١).
والذي نراه أن رأى الجمهور أرجح لأنه لم يرد نص يدل على تخصيص الخطاب في الآية للكافرين.
ثم قال ـ تعالى ـ : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) أى : وهو الغالب المتصرف في شئون خلقه يفعل بهم ما يشاء إيجادا وإعداما وإحياء وإماتة وإثابة وعقابا إلى غير ذلك ، والمراد بالفوقية فوقية المكانة والرتبة لا فوقية المكان والجهة.
قال الإمام الرازي : وتقرير هذا القهر من وجوه :
الأول : أنه قهار للعدم بالتكوين والإيجاد.
والثاني : أنه قهار للوجود بالإفناء والإفساد ، فإنه ـ تعالى ـ هو الذي ينقل الممكن من العدم إلى الوجود تارة ، ومن الوجود إلى العدم تارة أخرى ، فلا وجود إلا بإيجاده ، ولا عدم إلا بإعدامه في الممكنات.
والثالث : أنه قهار لكل ضد بضده ، فيقهر النور بالظلمة ، والظلمة بالنور ، والنهار بالليل ، والليل بالنهار ، وتمام تقريره في قوله : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢).
وقوله (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) أى : ويرسل عليكم ملائكة تحفظ أعمالكم وتحصيها وتسجل ما تعملونه من خير أو شر. قال : ـ تعالى ـ : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) وقال ـ تعالى ـ : (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ. ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ).
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٣٢.
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٥٨.