قال القرطبي : ونظيره قول جهال الأعراب وقد رأوا شجرة خضراء للكفار تسمى ذات أنواط ـ لأنهم كانوا ينوطون بها سلاحهم أى يعلقونه ـ وكان الكفار يعظمون هذه الشجرة في كل سنة يوما ، قال الأعراب : يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «الله أكبر. قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) لتركبن سنن من قبلكم حذو القذة بالقذة (١) حتى إنهم لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه» وكان هذا في مخرجه إلى حنين (٢).
ولقد غضب موسى ـ عليهالسلام ـ من طلبهم هذا ـ وهو الغضوب بطبيعته لربه ودينه ـ فرد عليهم ردا قويا فيه توبيخ لهم وتعجب من قولهم بعد أن رأوا من المعجزات ما رأوا فقال : (إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) أى : إنكم يا بنى إسرائيل بطلبكم هذا برهنتم على أنكم قوم قد ملأ الجهل قلوبكم ، وغطى على عقولكم ، فصرتم لا تفرقون بين ما عليه هؤلاء من ضلال مبين ، وبين ما تستحقه الألوهية من صفات وتعظيم ولم يقيد ما يجهلونه ليفيد أنه جهل كامل شامل يتناول فقد العلم ، وسفه النفس ، وفساد العقل. وسوء التقدير.
وبعد أن كشف لهم سوء حالهم ، وفرط جهالاتهم ، بين لهم فساد ما طلبوه في ذاته ، وقبح عاقبة من أرادوا تقليدهم ، فقال لهم بأسلوب الاستئناف المفيد للتعليل (إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).
متبر : من التتبير بمعنى الإهلاك أو التكسير والتحطيم يقال : تبره يتبره وتبره أى أهلكه ودمره.
أى : إن هؤلاء الذين تبغون تقليدهم في عبادة الأوثان ، محكوم على ما هم فيه بالدمار ، ومقضي على ما يعملونه من عبادة الأصنام بالاضمحلال والزوال لأن دين التوحيد سيظهر في هذه الديار ، وستصير العبادة لله الواحد القهار.
وبهذا الرد يكون موسى ـ عليهالسلام ـ قد كشف لقومه عن سوء ما يطلبون ، وصرح لهم بأن مصير ما يبغونه إلى الهلاك والتدمير.
قال الإمام الرازي : (والمراد من بطلان عملهم أنه لا يعود عليهم من عبادة ذلك العجل نفع ولا دفع ضرر ، وتحقيق القول في هذا الباب أن المقصود من العبادة أن تصير المواظبة على تلك الأعمال سببا لاستحكام ذكر الله تعالى في القلب حتى تصير الروح سعيدة بحصول تلك المعرفة فيها ، فإذا اشتغل الإنسان بعبادة غير الله تعلق قلبه بغيره ، ويصير ذلك التعلق سببا
__________________
(١) القذة : ريش السهم. قال ابن الأثير : يضرب مثلا للشيئين يستويان ولا يتفاوتان.
(٢) تفسير القرطبي ج ٧ ص ٢٧٣.