وقوله ـ تعالى ـ (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ) بيان للمنة العظيمة التي منحهم الله إياها ، وهي عبورهم البحر بعد أن ضربه موسى بعصاه ، فأصبح طريقا يابسا يسيرون فيه بأمان واطمئنان حتى عبروه إلى الناحية الأخرى ، يصحبهم لطف الله ، وتحدوهم عنايته ورعايته.
وجاوز بمعنى أصل الفعل الذي هو جاز ، أى : قطعنا بهم البحر. يقال : جاز الوادي وجاوزه إذا قطعه وخلفه وراء ظهره.
والمراد بالبحر : بحر القلزم وهو المسمى الآن بالبحر الأحمر.
وقوله تعالى (فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ) بيان لما شاهدوه من أحوال بعض المشركين عقب عبورهم البحر ونجاتهم من عدوهم ، فماذا كانت نتيجة هذه المشاهدة؟ لقد كان المتوقع منهم أن يحتقروا ما شاهدوه ، وأن ينفروا مما أبصروه ، لأن العهد لم يطل بهم منذ أن كانوا يسامون سوء العذاب في ظل عبادة الأصنام عند فرعون وقومه ، ولأن نجاتهم مما كانوا فيه من ذل وهوان ، قد تمت على يد نبيهم الذي دعاهم إلى توحيد الله ـ تعالى ـ لكي يزيدهم من فضله.
ولكن طبيعة بنى إسرائيل المعوجة لم تفارقهم ، فها هم أولاء ما إن وقعت أبصارهم على قوم يعكفون ويداومون على عبادة أصنام لهم (١) ، حتى انجذبوا إليها وطلبوا من نبيهم الذي جاء لهدايتهم ، أن يجعل لهم وثنا كغيرهم لكي يعبدوه من جديد. لقد حكى القرآن عنهم أنهم عند ما شاهدوا هذا المنظر ، ما لبثوا أن قالوا لنبيهم (يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ). قالوا ذلك لأن الإيمان لم يستقر في قلوبهم ، ولأن ما ألفوه من عبادة الأصنام أيام استعباد فرعون لهم ، ما زال متمكنا من نفوسهم ، ومسيطرا على عقولهم ، وهكذا عدوى الأمراض تصيب النفوس كما تصيب الأبدان ، وهكذا طبيعة بنى إسرائيل ما تكاد تهتدى حتى تضل ، وما تكاد ترتفع حتى تنحط ؛ وما تكاد تسير في طريق الاستقامة حتى ترتكس وتنتكس.
وفي قولهم لنبيهم (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) بصيغة الأمر ؛ أكبر دليل على غباء عقولهم ، وسوء أدبهم ؛ لأنهم لو استأذنوه ـ مثلا ـ في اتخاذ صنم يعبدونه كغيرهم لكان شأنهم أقل غرابة ؛ ولكن الذي حصل منهم أنهم طلبوا منه ـ وهو نبيهم الداعي لهم إلى توحيد الله تعالى ؛ والمنقذ لهم من عدوهم الوثني الجبار ـ أن يقوم هو بنفسه بصناعة صنم لكي يعبدوه كغيرهم!!.
__________________
(١) اختلف المفسرون في شأن القوم الذين كانوا يعكفون على أصنام لهم عند مرور بنى إسرائيل بهم ، فقيل هم من عرب لخم. وقيل هم من لخم وجذام. وقيل كانوا من الكنعانيين الذين أمر موسى ـ قومه بقتالهم ، وقيل إنهم من العرب الذين كانوا يقيمون بقرب حدود مصر.