وبذلك تكون الآية الكريمة قد تضمنت شهادة من الله ـ تعالى ـ بأن رسوله محمدا صلىاللهعليهوسلم صادق في رسالته ، وشهادة من هذا الرسول الكريم بأن الله واحد لا شريك له ، وأنه برىء من إلحاد الملحدين وكفر الكافرين.
ثم ساق القرآن شهادة ثالثة بصدق النبي صلىاللهعليهوسلم وهي شهادة أهل الكتاب فقال (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) : قال الجمل في حاشيته على الجلالين : «روى أن النبي صلىاللهعليهوسلم لما قدم المدينة وأسلم عبد الله بن سلام قال له عمر : إن الله أنزل على نبيه بمكة : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) فكيف هذه المعرفة؟ فقال عبد الله بن سلام : يا عمر ، لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني ، ولأنا أشد معرفة بمحمد منى با بنى!! فقال عمر : كيف ذلك؟ فقال : أشهد أنه رسول الله حقّا ولا أدرى ما تصنع النساء» (١).
والمعنى : إن علماء أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، يعرفون صدق ما جاء به محمد صلىاللهعليهوسلم معرفة تماثل معرفتهم لأبنائهم الذين هم من أصلابهم ، فهي معرفة بلغت حد اليقين وذلك بسبب ما عندهم من الأخبار والأنباء عن المرسلين المتقدمين ، فإن الرسل كلهم بشروا بوجود محمد صلىاللهعليهوسلم ومبعثه وصفته وبلده ومهاجره وصفة أمته.
والضمير في (يَعْرِفُونَهُ) يرى أكثر المفسرين أنه يعود على النبي صلىاللهعليهوسلم ويؤيد ذلك سبب نزول الآية ، ويرى بعضهم أنه يعود على القرآن لتقدمه في قوله (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ) أو على التوحيد لدلالة قوله (قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ).
والأولى عودة الضمير على جميع ما ذكر ، لأن معرفتهم بما في كتابهم يتناول كل ذلك.
ثم بين ـ سبحانه ـ علة إنكار المكابرين منهم لما يعرفونه من أمر نبوته صلىاللهعليهوسلم فقال : الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).
قال صاحب الكشاف : (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) من المشركين ومن أهل الكتاب الجاحدين (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) به (٢) جمعوا بين أمرين متناقضين فكذبوا على الله بما لا حجة عليه ، وكذبوا بما ثبت بالحجة البينة والبرهان الصحيح حيث قالوا : (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) وقالوا (وَاللهُ أَمَرَنا بِها) وقالوا : «الملائكة بنات الله» ونسبوا إليه تحريم البحائر والسوائب ، وذهبوا فكذبوا القرآن والمعجزات وسموها سحرا ولم يؤمنوا بالرسول صلىاللهعليهوسلم.
__________________
(١) حاشية الجمل : ج ٢ ص ١٥.
(٢) تفسير الكشاف ج ٣ ص ١٢.