مكة ، ولأنذر به ـ أيضا ـ جميع من بلغه هذا الكتاب الكريم ووصلت إليه دعوته من العرب والعجم في كل زمان ومكان إلى يوم القيامة.
فهذه الجملة تدل على عموم بعثة النبي صلىاللهعليهوسلم كما تدل على أن أحكام القرآن تعم الموجودين وقت نزوله ، وتعم ـ أيضا ـ الذين وجدوا بعد نزوله وبلغتهم دعوته. ولم يروا النبي صلىاللهعليهوسلم ففي الحديث الشريف : «بلغوا عن الله ـ تعالى ـ فمن بلغته آية من كتاب الله فقد بلغه أمر الله» (١).
وعن محمد بن كعب قال : «من بلغه القرآن فكأنما رأى النبي صلىاللهعليهوسلم وذلك لأن القرآن الكريم لما كان متواترا بلفظه ومعناه ، كان من بلغه بعد وفاة النبي صلىاللهعليهوسلم : كأنما سمعه منه وإن كثرت الوسائط ، لأنه هو الذي بلغه بلا زيادة ولا نقصان ، أما من لم تبلغه دعوة القرآن فلا يصدق عليه أنه بلغته الدعوة ، وحينئذ لا يكون مخاطبا بتعاليم هذا الدين ، وإثمه يكون في أعناق الذين قصروا في تبليغ دعوة الإسلام إليه.
ثم أمره ـ سبحانه ـ أن يستنكر ما عليه المشركون من كفر وإلحاد ، وأن يعلن براءته منهم ومن معبوداتهم فقال ـ تعالى ـ : (أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى ، قُلْ : لا أَشْهَدُ ، قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ).
أى : قل يا محمد لهؤلاء المشركين : إذا كنتم قد ألغيتم عقولكم. وترديتم في مهاوي الشرك والضلال ، وشهدتم بأن مع الله آلهة أخرى ، فإنى برىء منكم ومن أعمالكم القبيحة ، ومحال أن أشهد بما شهدتم به ، وإنما الذي أشهد به وأعتقده ، أن الله ـ تعالى ـ واحد لا شريك له ، وإننى بعيد كل البعد عن ضلالكم وجحودكم.
والاستفهام في قوله (أَإِنَّكُمْ) إنكارى ، جيء به لاستقباح ما وقع منهم من شرك ، وأكد قوله (لَتَشْهَدُونَ) للإشارة إلى تغلغل الضلال في نفوسهم ، واستيلاء الجحود على قلوبهم.
وعبر عن أوثانهم بأنها (آلِهَةً أُخْرى) مجاراة لهم في زعمهم الباطل ومبالغة في توبيخهم والتهكم بهم.
وفي أمره ـ سبحانه ـ لنبيه صلىاللهعليهوسلم بأن يصارحهم بأنه لا يشهد بشهادتهم «قل : لا أشهد» توبيخ لهم على جهالتهم ، وتوجيه لأتباعه إلى الاقتداء به في شجاعته أمام الباطل ، وفي ثباته على مبدئه.
وقد تضمن قوله ـ تعالى : (قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) اعتراف كامل بوحدانية الله ، وقصرها عليه ـ سبحانه ـ ، وتصريح بالبراءة التامة من الأوثان وعابديها ، وتنديد شديد بهذا العمل الباطل.
__________________
(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٢٦.