سبق فعدى تعديته فقال : عجلت الأمر. والمعنى : أعجلتم عن أمر ربكم وهو انتظار موسى حافظين لعهده وما وصاكم به ، فبينتم الأمر على أن الميعاد قد بلغ آخره ولم أرجع إليكم ، فحدثتم أنفسكم بموتى فغيرتم كما غيرت الأمم بعد أنبيائهم.
وروى أن السامري قال لهم حين أخرج لهم العجل : هذا إلهكم وإله موسى ، وأن موسى لن يرجع وأنه قد مات.
وروى أنهم عدوا عشرين يوما بلياليها فجعلوها أربعين ثم أحدثوا ما أحدثوا (١).
ثم بين ـ سبحانه ـ أن غضب موسى ترتب عليه أمران يدلان على شدة الانفعال : أولهما : قوله تعالى : (وَأَلْقَى الْأَلْواحَ) أى طرحها من يديه لما اعتراه من فرط الدهش ، وشدة الضجر ، حين أشرف على قومه وهم عاكفون على عبادة العجل ، فإلقاؤه الألواح لم يكن إلا غضبا لله ، وحمية لدينه ، وسخطا على قومه الذين عبدوا ما يضرب به المثل في البلادة.
قال الآلوسى : قوله ـ تعالى ـ (وَأَلْقَى الْأَلْواحَ) حاصله أن موسى لما رأى من قومه ما رأى. غضب غضبا شديدا حمية لدينه فعجل في وضع الألواح لتفرغ يده فيأخذ برأس أخيه فعبر عن ذلك الوضع بالإلقاء تفظيعا لفعل قومه حيث كانت معاينته سببا لذلك وداعيا إليه ، وليس فيه ما يتوهم منه الإهانة لكتاب الله بوجه من الوجوه. وانكسار بعض الألواح حصل من فعل مأذون فيه ولم يكن غرض موسى ولا مر بباله ولا ظن ترتيبه على ما فعل. وليس هناك إلا العجلة في الوضع الناشئة من الغيرة لله. وقد أنكر بعض العلماء أن يكون شيء منها قد تكسر ، لأن ظاهر القرآن خلافه. نعم أخرج أحمد وغيره عن ابن عباس قال. قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «يرحم الله موسى ، ليس المعاين كالمخبر أخبره ربه أن قومه فتنوا بعده فلم يلق الألواح فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح فتكسر منها» (٢).
وثانيهما : قوله تعالى : (وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) أى. أخذ موسى بشعر رأس أخيه هارون يجره إليه غضبا منه ، لظنه أنه قد قصر في نصحهم وزجرهم عن عبادة العجل. ولكن هارون ـ عليهالسلام ـ أخذ يستجيش في نفس موسى عاطفة الأخوة الرحيمة ، ليسكن من غضبه الشديد. وليكشف له عن طبيعة الموقف ، وليبرئ ساحته من مغبة التقصير ، فقال له : (ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). أى : قال هارون لموسى مستعطفا : يا ابن أمى ـ بهذا النداء الرقيق وبتلك الوشيجة الرحيمة ـ لا تعجل بلومي وتعنيفى ، فإنى ما آليت جهدا في الإنكار عليهم ،
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٥١٠.
(٢) تفسير الآلوسى ج ٩ ص ٦٧.