استمع إلى القرآن وهو يقص ذلك بأسلوبه الحكيم فيقول : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً).
«ذرأ» بمعنى خلق يقال : ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذرءا أى : خلقهم وأوجدهم وقيل : الذرأ الخلق على وجه الاختراع.
أى : وجعل هؤلاء المشركون مما خلقه الله ـ تعالى ـ من الزروع والأنعام نصيبا لله يعطونه للمساكين وللضيوف وغيرهم ، وجعلوا لأصنامهم نصيبا آخر يقدمونه لسدنتها ، وإنما لم يذكر النصيب الذي جعلوه لأصنامهم اكتفاء بدلالة ما بعده وهو قوله : (فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا).
أى : فقالوا في القسم الأول : هذا لله نتقرب به إليه.
وقالوا في الثاني : وهذا لشركائنا نتوسل به إليها.
وقوله ـ تعالى ـ في القسم الأول (هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ) أى : بتقولهم ووضعهم الذي لا علم لهم به ولا هدى.
قال الجمل : ومن المعلوم أن الزعم هو الكذب ، وإنما نسبوا للكذب في هذه المقالة مع أن كل شيء لله ، لأن هذا الجعل لم يأمرهم به الله وإنما هو مجرد اختراع منهم (١).
وقال أبو السعود : وإنما قيد الأول بالزعم للتنبيه على أنه في الحقيقة جعل لله ـ تعالى ـ غير مستتبع لشيء من الثواب كالتطوعات التي يبتغى بها وجه الله ـ لا لما قيل من أنه للتنبيه على أن ذلك مما اخترعوه ، فإن ذلك مستفاد من الجعل ولذلك لم يقيد به الثاني ، ويجوز أن يكون ذلك تمهيدا لما بعده على معنى أن قولهم هذا لله مجرد زعم منهم لا يعملون بمقتضاه الذي هو اختصاصه ـ تعالى ـ به (٢).
ثم فصل ـ سبحانه ـ ما كانوا يعملونه بالنسبة للقسمة فقال : (فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ ، وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ).
أى : فما كان من هذه الزروع والأنعام من القسم الذي يتقرب به إلى شركائهم ، فإنهم يحرمون الضيفان والمساكين منه ولا يصل إلى الله منه شيء ، وما كان منها من القسم الذي يتقرب به إلى الله عن طريق إكرام الضيف والصدقة ، فإنهم يجورون عليه ويأخذون منه ما يعطونه لسدنة الأصنام وخدامها.
__________________
(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ١ ص ٩٣.
(٢) تفسير أبى السعود ج ٢ ص ١٩٣.